﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ ﴾ قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى. فنزلت: وجئتمونا ماض معناه المضارع. والظاهر أنه من كلام الله تعالى والخطاب للكفار فرادى واحداً واحداً من غير الأهل والمال والولد.﴿ كَمَا ﴾ الكاف للتشبيه تقديره مجيئاً مثل خلقنا إياكم. وانتصب: ﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ على الظرف، أي أول زمان خلقناكم أي أبرزناكم للوجود.﴿ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ ﴾ أي ما تفضلنا به عليكم من الخول والأهل والمال.﴿ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ منصوب بقوله: وتركتم، وكني به عن الدنيا.﴿ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ﴾ وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وكانوا يعتقدون شفاعة الملائكة.﴿ أَنَّهُمْ فِيكُمْ ﴾ سدت ان مسد مفعولي زعمتم وفيكم متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ قرىء: بينكم بالرفع على أنه فاعل بتقطع اتسع فيه، وأسند إليه الفعل فصار اسماً كما استعملوه إسماً في قوله:﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾[فصلت: ٥].
وقرىء: بينكم بالنصب فقيل: الحركة حركة بناء، وبني لإِضافته إلى المبني وهو ضمير الخطاب فيكون فاعلاً بتقطع فتستوي القراءتان ويظهر أن الفاعل ضمير يعود على المصدر المفهوم مما قبله تقديره هو، أي التواصل الذي كان بينكم وبين شفعائكم، ويظهر أيضاً أن يكون من باب الأعمال تقدم تقطع وعطف عليه وضلَّ فتنازعا على ما فاعمل الثاني فما فاعل بضل وأضمر في تقطع الفاعل وهو ضمير ما ومفعولاً تزعمون محذوف اختصاراً لدلالة ما قبله عليه تقديره تزعمونهم شركاء فيكم.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ ﴾ الظاهر أن المعنى أنه تعالى فالق الحب شاقه فمخرج منه النبات، والندى فمخرج منه الشجر. والحب والنوى عامان أي كل حبة وكل نواة. وهذه إشارة إلى فعل الله تعالى في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه. ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبّه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها وإخراجه منها نبتاً أخضر ليناً إلى ما بعد ذلك مما فيه القدرة التامة والإِشارة إلى البعث والنشر بعد الموت.﴿ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ تقدم تفسيره في أوائل آل عمران، وعطف قوله:﴿ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ ﴾ على قوله: فالق الحب، اسم فاعل على إسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله: فالق الحب والنوى، من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله:﴿ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾[الحديد: ١٧]، فوقع قوله: يخرج الحي من الميت، من قوله: فالق الحب والنوى موقع الجملة المبنيّة فلذلك عطف على إسم فاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما:﴿ تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾[آل عمران: ٢٧]، كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه. كما قال الشاعر: بات يغشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر﴿ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾ فكيف تصرفون عن عبادة من له هذه القدرة الباهرة.﴿ فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ ﴾ الأصباح مصدر سمي به الصبح قال الشاعر: ألا أيها الليل الطويل الا انجلى بصبح وما الإِصباح منك بأمثلوفلقه إخراج هذا النور المنتشر من ظلمة الليل وغبشها سكناً إذ هو أعظم من فلق الحب والنوى إذ هو من الآثار العلوية والأحوال الفلكية أعظم وقعاً في النفوس من الأحوال الأرضية.﴿ سَكَناً ﴾ فعل بمعنى مفعول، كالقنص بمعنى المقنوص. وانتصب على أنه مفعول ثان لجاعل وأضيف جاعل إلى المفعول الثاني وهو الليل. وقرىء: وجعل فعلاً ماضياً ونصب الليل والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان. قال ابن عباس: يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين ومن قرأ وجعل عطف والشمس وما بعده على معمولي جعل. ومن قرأ بالإِضافة فقيل: هو عطف على موضع الليل لأن موضعه نصب وهذا لا يجوز على مذهب سيبويه بل لا يعطف على موضع إسم الفاعل عنده، بل يضمر فعلاً تقديره وجعل الشمس والقمر. قال الزمخشري: أو يعطفان على محل الليل فإِن قتل: كيف يكون الليل محل والإِضافة حقيقة، لأن إسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس؟ قلت: ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة. " انتهى ". ملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإِعراب وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما قوله: إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع فيعطف عليه والشمس والقمر وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل. وقد نصوا على ذلك وأنشدوا: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان﴿ ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ﴾ ذلك إشارة إلى جميع الاخبار من قوله: فالق الحب، إلى آخره.