﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ ﴾ لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإِنسان لما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين أن ذلك آيات لقوم يعلمون ولقوم يفقهون ولقوم يؤمنون ذكر ما عاملوا به منشأهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات. والضمير في وجعلوا عائد على الكفار لأنهم مشركون، وأهل كتاب شركاء مفعول أوّل ولله متعلق به والجن مفعول ثان وأعرب أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي قال: انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء. قيل: الجن، أي جعلوا الجن. ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال: من الذي جعلوهم شركاء فقيل لهم هم الجن. ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكاً لله تعالى، فعلى قراءة الرفع في الجن يكون شركاء مفعول أول، ولله جار ومجرور في موضع المفعول الثاني أي صيروا شركاء كائنين لله. قال الزمخشري وابن عطية: الجن مفعول أول لجعلوا وهو بمعنى صيروا وشركاء مفعول ثان، ولله متعلق بشركاء. قال الزمخشري: فإِن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً ولذلك قدم اسم الله على الشركاء " انتهى ". وأجاز والحوفي وأبو البقاء أن يكون الجن بدلاً من شركاء، ولله في موضع المفعول الثاني، وشركاء هو المفعول الأول وما أجازوه لا يجوز لأنه لا يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً. لو قلت: وجعلوا لله الجن لم يصح. وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا. والضمير في وخلقهم عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإِيجادهم دون من اتخذوه شريكاً له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكاً لخالقهم وهذه غاية الجهالة.﴿ وَخَرَقُواْ ﴾ قرىء: بتخفيف الواو وتشديدها، أي اختلقوا وافتروا. ويقال: خلق الإِفك وخرقه واختلقه واخترقه وافتعله وافترا، وخرصه إذا اكذب فيه، قال الفراء. وأشار بقوله: بنين، إلى قول أهل الكتاب بنين في المسيح وعزيز، وبقوله: وبنات إلى قول قريش في الملائكة.﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو بديع، وتقدم تفسيره في البقرة.﴿ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ﴾ أي كيف يكون له ولد وهذه حالة أي أن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له فلا ولد له. وفي ابطال الولد من ثلاثة أوجه أحدها أنه مبتدع السماوات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً، والثاني أن الولادة لا تكون إلاّ بين زوجين من جنس واحد وهو تعالى متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث أنه ما من شىء إلا وهو خالقه والعالم به؛ ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شىء والولد إنما يطلبه المحتاج إليه.﴿ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي ذلكم الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعاً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً خالق الموجودات عالماً بكل شىء هو الله بدأ بالاسم العلم ثم قال: ربكم، أي مالككم والناظر في مصالحكم ثم حصر الألوهية فيه ثم كرر وصف خلقه كل شىء، ثم أمر بعبادته لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديراً بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شىء هو المالك لكل شىء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال.﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ ﴾ اختلف المفسرون في الإِدراك في هذه الآية ما هو فقيل: الإِدراك هنا الرؤية. وبه قال جماعة من الصحابة وقيل: الإِدراك هنا هو الإِحاطة بالشىء وليس بمعنى الرؤية وهو قول جماعة من الصحابة أيضاً. وسيأتي الكلام على الرؤية في سورة الأعراف عند قوله حكاية عن موسى عليه السلام في قوله:﴿ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف: ١٤٣].
الآية.