﴿ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ مناسبتها لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإِلهي أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها، وفي قوله: حرمنا. تكذيب لليهود في قولهم: إن الله تعالى لم يحرم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. قال ابن عباس وجماعة: هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والوز ونحوهما، واختاره الزجاج.﴿ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ﴾ من متعلقة بحرمنا. والضمير المثنى في شحومهما عائد على البقر والغنم.﴿ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ﴾ أي إلا الشحم الذي حملته ظهور البقر والغنم. قال ابن عباس: وهو ما علق بالظهر من الشحم وبالجنب من داخل بطونهما. وما: موصولة. والضمير العائد على ما محذوف تقديره حملته الحوايا إن قدر وزنها فواعل فجمع حاوية كزواية وزواياه، أو جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا، وتقرير صيرورة ذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوارة التي تكون في بطون الشياه. وقال علي بن عيسى الرماني: هو كل ما يحويه البطن، فاجتمع واستدار. وقال ابن عباس وجماعة: هي الماعز. قال الزمخشري: وأوْ في " أو الحوايا " بمنزلتها في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين. " انتهى ". الذي قاله النحويون أن أوْ في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوْفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم.﴿ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ ﴾ معطوفاً على ما حملت ظهورهما.﴿ بِعَظْمٍ ﴾ هو شحم الألية لأنه على العصعص، قاله السدي وابن جريج.﴿ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم ﴾ ذلك إشارة إلى المصدر الدال عليه التحريم كأنه قال: ذلك التحريم جزيناهم.﴿ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ﴾ إخبار عما حرم الله تعالى عليهم لا أن ذلك من تحريم إسرائيل.﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ الظاهر عود الضمير على أقرب مدكور وهم اليهود أي فإِن كذبوك فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم. وقالوا: لم يحرمه الله تعالى وإنما حرمه إسرائيل.﴿ فَقُلْ ﴾: متعجباً من حالهم ومعظماً لافترائهم مع علمهم بما قلت.﴿ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة هذا الجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة ما أحلم الله تعالى وأنت تريد لإِمهاله العاصي. و ﴿ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ عام فيندرج فيه مكذبوا الرسول وغيرهم من المجرمين. ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهر موقع المضمر، أي ولا يرد بأسه عنكم. وجاء معمول قل الأول جملة إسمية لأنها أبلغ في الاخبار من الجملة الفعلية فناسبت الأبلغية في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت إسمية فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الاخبار عن الوصفين، وباب الرحمة أوسع فلا تعادل.﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، هذا إخبار بمستقبل وقد وقع وفيه إخبار بمغيبٍ معجزةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر به تعالى. وهذا القول ورد منهم حين بطل احتجاجهم وثبت الرد عليهم فعدلوا إلى أمر حق، وهو أنه لو أراد الله تعالى أن لا يقع شىء من ذلك لم يقع وأورد ذلك على سبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحاداً، لا اعتقاداً صحيحاً والذين أشركوا عام في مشركي قريش وغيرهم. ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشركنا.﴿ وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ معطوف على الضمير في أشركنا. ولم يحتج إلى توكيد إذ فضل بين الضمير والمعطوف عليه لفظة لا ولو كان في غير القرآن لاحتيج إلى فصل الضمير كما تقول: ما قمنا نحن وزيد. وهذا على مذهب أهل البصرة والكوفيون لا يشترطون الفصل بالضمير في العطف.﴿ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ أي مثل ذلك التكذيب المشار إليه في قوله: فإِن كذبوك كذبت الأمم السالفة. فمتعلق التكذيب هو غير قولهم: لو شاء الله ما أشركنا، أي بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله دليل على رضاه بحالهم.﴿ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا ﴾ غاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب لأنه إذا حل العذاب لم يبق تكذيب البتة.﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ ﴾ هذا استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار، أي ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهروه لنا ما تتبعون في دعاويكم إلا الظن الكاذب الفاسد. وما أنتم إلا تكذبون أو تقدرون وتحذرون. ومن علم: مبتدأ زيدت فيه من، وعندكم: الخبر.﴿ فَتُخْرِجُوهُ ﴾ جواب الاستفهام وهو منصوب بحذف النون كقوله تعالى:﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ ﴾[الأعراف: ٥٣].
وان في الموضعين نافية تقديره ما تتبعون وما أنتم.﴿ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ ﴾ أي البالغة في الاحتجاج الغالبة كل حجة حيث خلق عقولاً يفكر بها وأسماعاً يسمع بها وأبصاراً يبصر بها. وكل هذه مدارك للتوحيد ولاتباع ما جاء به الرسل عن الله تعالى.﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ ﴾ بيّن تعالى كذبهم على الله تعالى وافتراءهم في تحريم ما حرموا منسوباً إلى الله تعالى فقال نبئوني بعلم، وقال: أم كنتم شهداء. ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلى وجه ثالث ليس بهذين الوجهين، وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله تعالى ما حرموا وهلم هنا على لغة الحجاز إسم فعل وهي متعدية، ولذلك انتصب المفعول به بعدها وتأتي الأزمة كقوله:﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾[الأحزاب: ١٨]، أي اقبلوا إلينا وإضافة الشهداء إليهم تدل على أنهم غيرهم، وهذا أمر على سبيل التعجيز، أي لا يوجد من يشهد لهم بذلك شهادة حق، لأنها دعوى كاذبة.﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ الظاهر في العطف أنه يدل على مغايرة الذوات، والذين كذبوا بآياتنا يعم جميع من كذب الرسول، وإن كان مقراً بالآخرة كأهل الكتاب.﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ قسم من المكذبين بالآيات وهم عبدة الأوثان والجاعلون لربهم عديلاً، وهو المثل عدلوا به الأصنام في العبادة والألوهية. ويحتمل أن يكون العطف من تغاير الصفات والموصوف واحد وهو قول الأكثرين.﴿ بِرَبِّهِمْ ﴾ متعلق.﴿ يَعْدِلُونَ ﴾ ومفعول يعدلون محذوف، والتقدير وهم يعدلون بربهم غيره من الآلهة التي عبدوها.


الصفحة التالية
Icon