﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤمۤصۤ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ الآية، هذه السورة مكية، قاله ابن عباس وجماعة. وقال مقاتل: إلا قوله واسألهم عن القرية إلى قوله: من ظهورهم ذرياتهم فإِن ذلك مدني. وروي هذا أيضاً عن ابن عباس وقيل: إلى قوله تعالى:﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ ﴾[الأعراف: ١٧١] واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٥].
واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ ﴾[الأنعام: ١٦٥] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما به تكون التكاليف وهو الكتاب الإِلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٥].
وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة أوائل السور في أول البقرة وذكر ما حَدَسه الناس فيها، ولم يقم دليل واضح على شىء من تفسيرهم يتعيّن به ما قالوا. وزادوا هنا لأجل الصاد أقوالاً لا يقوم الدليل على صحة شىء منها ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه، أي من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا أعتقد صحة رسالة، وتكليف الناس أحكامها، وهذه أمور صعبة ومعانيها تشق عليه. وأسند النهي إلى الحرج، ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أن الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك، فانته أنت عنه بعدم التعرض له ولأن فيه تنزيهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينهاه، فيأتي التركيب فلا تحرج منه لأن ما أنزله تعالى إليه يناسبان يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإِنزاله عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه. فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهى الحرج. كتاب: خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الكتاب، وأنزل جملة في موضع الصفة للكتاب. والظاهر أن الضمير في منه عائد على الكتاب وذهب الفراء وتبعه الحوفي والزمخشري وابن عطية أنّ تنزل ومتعلق بقوله: انزل إليك. وقوله: أنزل ماضي الزمان. ولتنذر مستقبل الزمان فلذلك احتيج في جعله مفعولاً من أجله للام الجر لمّا اختلف زمانهما. والجملة من قوله: فلا يكن اعتراض بين أنزل وبين لتنذر.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ مصدر وهو مجرور عطفاً على المصدر المنسبك من أنْ. والفعل المنصوب بإِضمارها أي انْ في قوله: لتنذر، أي لإِنذارك ولذكرى ومعنى ذكرى هنا المراد به ولتذكير المؤمنين كقوله تعالى:﴿ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾[المدثر: ٣١]، وحذف مفعول تنذر أي لتنذر الكافرين ويدل على حذفه نظيره في قوله: وذكرى للمؤمنين.﴿ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى:﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾[النجم: ٣-٤].
والضمير في ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ عائد على ربكم.﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ من دون الله كالأصنام والرهبان والكهان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك. وانتصب: ﴿ قَلِيلاً ﴾ على أنه نعت لمصدر محذوف. وما: زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً.﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ كم هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم، وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر. وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإِضمار فعل يفسره أهلنكاها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله: أو هم قائلون فمنهم من قدره وكم من أهل قرية، ومنهم من قدره أهلكنا أهلها. وينبغي أن يقدر عند قوله: فجاءها بأسنا أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بقوله: بياتاً، بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك، فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله: فجاءها، والضمير في أهلكناها المرفوع ضمير المتكلم المعظم وفيه التفات إذ فيه خروج من ضمير الغائب المفرد إلى ضمير المتكلم.﴿ قَآئِلُونَ ﴾ يعني من نوع القيلولة نوَّع مجيء البأس إلى نوعين الاستراحة وهو بياتاً أي ليلاً إذ هو وقت سكون وراحة، وإلى زمان القيلوة وهو وقت الراحة أيضاً وأوَّ هنا للتفصيل. قال الزمخشري: فإن قلت: لا يقال: جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: ﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ قلت: قدر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزجاج. وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حَرْفَيْ عطف لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل. فقولك: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدة. وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث. " انتهى ". فأما بعض النحويين الذي أبهمه الزمخشري فهو الفراء. وأما قول الزجاج في التمثيلين لم يحتج فيهما إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز دخولها في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حد سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول لا لإقناعه. وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حَرْفَيْ عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لَحُظ فيها معْنى واو العطف، تقول: جاءني زيد والشمس طالعة. فجاء زيد ليس بحال فتعطف عليه جملة حال وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجن. وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناة على أن الجملة الاسمية إذ كان فيها ضمير ذي الحال فإِن حذف الواو منها شاذ. وتبع في ذلك الفراء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بَيْرين ومها فلسطين. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة.﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾ قال ابن عباس: دعواهم تضرعهم إلا إقرارهم بالشرك. " انتهى ". ودعواهم إسم كان. و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لدعواهم وخبر كان.﴿ أَن قَالُوۤاْ ﴾ أي إلا قولهم وإنا وما بعدها معمول للقول.﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعما بلغه إليهم الرسل كقوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾[القصص: ٦٥]، وتسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾[المائدة: ١٠٩] وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة.﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم ﴾ أي نسرد عليهم أعمالهم قصةً قصةً.﴿ بِعِلْمٍ ﴾ منا لذلك واطلاع عليه.﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ عن شىء منه وهذا من أعظم التوبيخ حيث يقرون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقص الله عليهم أعمالهم.


الصفحة التالية
Icon