﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ وفي سورة الشعراء قال للملأ حوله والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ ولما كان الانقلاب وبياض اليد مما مستحيل في العادة وهم ينكرون النبوة نسبوه إلى السحر ووصفوه بعليم لمبالغته عندهم في السحر.﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ ﴾ استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلو مواطنهم منهم وإخراب بيوتهم فبادروا إلى الاخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ أغرق الله تعالى فرعون وآله وأخلى منازلهم منه ونُبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لقتل النفس كما قال تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ﴾[النساء: ٦٦] الآية وتحتمل ماذا أن تكون كلها استفهاماً، وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال: أمرتك الخير. ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شىء تأمرونني وأصله بأي شىء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عنه، وتأمرون صلة ذا، ويكون قد حذف مفعولي تأمرون وهو ضمير المتكلم، والثاني وهو الضمير العائد على الموصول التقدير فأي شىء الذي تأمروننيه أي تأمرونني به. وكلا الإِعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليهم، وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقروناً بحرف الجر فقال وفي تأمرون ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به. " انتهى ". وهذا ليس بجيد لفوات شرط جواب حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف جر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجر ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه، ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، ويتحد معنى الحرف أيضاً والعذر لابن عطية أنه قدره على سبيل الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحرف ثم حذف بعد الاتساع.﴿ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾ أي قال من حضر مناظرة موسى عليه السلام من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه، قيل: ولم يكن فرعون يجالس ولدغية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالارجاء ولم يشيروا عليه بالقتل، وقالوا: ان قتلته وخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة. وقرىء بالهمزة وبغير همزة فقيل: هما بمعنى واحد، والمعنى أخره أو أحبسه، وقيل: أرجيه بغير همز بمعنى أطعمه جعله من رجوت أدخل عليه همزة النقل أي أطعمه وأخاه ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإِنك إن قتلتهما ظن أنهما صدقا. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط." انتهى " نسبة ابن عطية هذه القراءة إلى ابن عامر ليس بجيد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام كان ينبغي أن يقيد فيقول: وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان، ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة. وقد تبين من غير آية أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه وموازراً له أشاروا بإِرجائهما.﴿ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ ﴾ أي مدائن مصر. وقرأها والحاشرون. قال ابن عباس: هم أصحاب الشرط حاشرين أي حاشرين السحرة وفي الكلام حذف تقديره فبعث فأتوه.﴿ وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ ﴾ واعلموا بما صدر من موسى عليه السلام من إنقلاب العصا وبياض اليد وان هذا من السحر.﴿ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً ﴾ وقرىء أإن بهمزة الاستفهام وقرىء أنّ على جهة الإِثبات فجاز أن يكون الاستفهام من بعض السحرة والإِثبات من بعضهم وفي خطأ السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وربما يحصل للعالم بالشىء من الترفع على من يحتاج اليه وعلى من لا يعلم مثل علمه ونحن إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف.﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ أي نعم ان لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد نعم التي هي نائبة عنها، والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا المقربين فتجوزون إلى الأجر الكرامة والرفعة والجاه والمنزلة.﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ ﴾ الآية قبل هذا محذوف تقديره فحضر موسى بعصاه والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب كما قال الزمخشري بل ذلك من باب الادلال بما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والاهتبال بأمر موسى عليه السلام وأجازوا في أن تلقى وفي أن تكون النصب أي اختْر أو افعل إما القاءك وإما إلقاءنا والمعنى فيه البداءة والرفع، أي أما إلقاؤك مبدوء به وأما إلقاؤنا فيكون مبتدأ، وأما أمرك الإِلقاء أي البداءة به أو أمرنا الإِلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف، ومفعول تلقى محذوف تقديره أن تلقي عصاك ومفعول الملقين محذوف تقديره حبالنا وعصيّنا.﴿ قَالَ أَلْقَوْاْ ﴾ أمرهم موسى عليه السلام بالتقدم وثوقاً بالحق وعلماً أن الله تعالى يبطله كما حكى الله تعالى عنه قال موسى: ما جئتم به السحر إن الله سيبطله.﴿ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ ﴾ أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى، وفي قوله: سحروا أعين الناس دلالة على أن السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخييل.﴿ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ ﴾ أي ارهبوهم واستفعل عنا بمعنى أفعل كابل واستبل. والرهبة: الخوف والفزع قال الزمخشري: واسترهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم. " انتهى ". وقال ابن عطية: واسترهبوهم بمعنى وارهبوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس. " انتهى ". ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستوى والمطلوب. والظاهر هنا حصول الرهبة فلذلك قلنا: ان استفعل فيه موافق افعل، ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيّل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤا بحبال من أدم وأخشاب مجوّفة مملوءة زيبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت النار من تحت والشمس من فوق فتحركت وركب بعضهما بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك.﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ الظاهر أنه وحي إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه فقال له: إن الحق يأمرك أن تلقي عصاك. وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجاش وتبشير بالنصر. وان يحتمل أن تكون المفسرة بمعنى أي لأنه تقدمها معنى القول وهو، وأوحينا فالمعنى أن ألق عصاك. وأن تكون الناصبة دخلت على فعل الأمر فينسبك منهما مصدر تقديره بالإِلقاء وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها فإِذا هي تلقف وتكون الجملة الفجائية اخباراً بما ترتب على الإِلقاء. وقرىء: تلقف بحذف التاء وأصلها تتلقف وبإِدغام التاء في التاء في تلقف. وقرىء: تلقف مضارع لقف، وما موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه أو مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمفعول بالمصدر.﴿ فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال ابن عباس والحسن: ظهر واستبان. وقال أرباب المعاني: الوقوع ظهور الشىء بوجوده نازلاً إلى مستقره. قال القاضي: فوقع الحق يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحق بطلت وزالت تلك الأعيان التي أفكوها وهي الحبال والعصي.﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ ﴾ أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو وقت اجتماعهم.﴿ وَٱنقَلَبُواْ ﴾ أذلاء.﴿ صَاغِرِينَ ﴾ حال.﴿ وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ لما كان الضمير قبل مشتركاً جرّد المؤمنون وأفردوا بالذكر.﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في ساجدين أو من السحرة، وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله تعالى شكراً على المعرفة والإِيمان وبالقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب، ولما كان السجود أعظم القرب إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به ملتبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذا الدخول في الإِيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى عليه السلام إني رسول من رب العالمين، ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى لقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصوا بالبدل على أن رب العالمين رب موسى وهارون، وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته، والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة.