﴿ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ ﴾ الآية هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهم جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:" يسرو ولا تعسروا "وقال حاتم الطائي: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب﴿ وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ ﴾ أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذ بالله منه وهي اللواذ والاستجارة. قيل: لما نزلت خذ العفو الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كيف والغضب "فنزلت وأما ينزغنك، وإن شرطية، وما زائدة، ونزغ هو الفاعل، وهو مصدر يراد به اسم الفاعل أي نازغ وهذا التركيب جاء في القرآن كثيراً بزيادة ما وبنون التوكيد كقوله تعالى: واما تخافن، فاما تذهبن، واما نرينك، وختم بهاتين الصفتين لأن الإستعاذة تكون باللسان ولا تجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ الآية قال ابن عطية وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإِنسان وكيف هذا، وقد قال الأعشى: وتصبح عن غب السرى وكأنها ألم بها من طائف الجن أولتانتهى. لا تتعجب من تفسير الكسائي الطائف بما طاف حول الإِنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه ان كان تعجبه وإنكاره من حيث خصوص الإِنسان فالذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال: كأنها، وإن كان تعجبه من حيث فسر بأنه ما طاف حول الإِنسان، فطائف الجن يصح أن يقال: هو طائف حول الإِنسان، وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي في عجلة بحالتها إذا ألم بها أولق من طائف الجن. وقرىء: طيف مخففاً من طيف كما قالوا: ميت في ميت، والنزغ من الشيطان أخف من مس الطائف من الشيطان، لأن النغز أدنى حركة. والمس: الإِصابة، والطائف: ما يطوف به ويدور عليه، فهو أبلغ لا محالة فحال المتيقن في ذلك غير حال الرسول. وانظر لحسن هذا البيان حيث كان الكلام للرسول كان الشرط بلفظ أن المحتملة للوقوع ولعدمه وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإِذا الموضوعة للتحقق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمس واقع لا محالة أو مرجح وقوعه هو إلصاق البشرة بالبشرة وهو هنا استعارة. وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبرية في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدل على تمكن حسّ الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى، وما نهى عنه وبنفس التذكر حصل إبصارهم وفاجأهم إبصار الحق والسداد فاتبعوه وطردوا عنهم مسّ الطائف واتقوا عامة في كل ما يتقى.﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ الضمير في وإخوانهم عائد على ما تقدم من الكفار. وإخوانهم مبتدأ، ويمدونهم خبر، والضمير في يمدونهم المنصوب يعود على ما عاد عليه الضمير في وإخوانهم. وقرىء: يمدونهم من أمد ويمدونهم من مدوهما بمعنى واحد. و ﴿ فِي ٱلْغَيِّ ﴾ متعلق بيمدونهم.﴿ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ أي لا يكفون عن إمدادهم في الغواية.﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ﴾ الآية، روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً فكان الكفار يقولون:﴿ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا ﴾ ومعنى هذه اللفظة في كلام العرب تخيَّرتها واصطفيتها. قال ابن عباس: هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك، ولولا هي للتحضيض بمعنى هلا.﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ﴾ الآية، بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه الله إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها. و ﴿ هَـٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ أي هذا الموحى إلي الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيات، وهي جمع بصيرة كقوله تعالى:﴿ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾[يوسف: ١٠٨]، أي على أمر جلّي منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات. وقيل: هو على حذف مضاف أي ذو بصائر.﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي دلالة على الرشد، ورحمة في الدين والدنيا. وخصَّ المؤمنين بأنهم هم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه.﴿ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ ﴾ الآية، روي أنها نزلت في المشركين كانوا إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ ﴾[فصلت: ٢٦].
فنزلت جواباً لهم. ولما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالإِنصات وهو السكوت مع الإِصغاء إليه، لأن ما اشتمل على هذه الأوصاف فمن البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحضل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلالة ويرحم بها. والظاهر استدعاء الاستماع والإِنصات إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء.﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ الآية لما أمرهم تعالى بالاستماع والإِنصات إذا شرع في قراءته ارتقى من أمره تعالى إلى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح ولا تصويت كما تناجي الملوك وتستجلب منهم الرغائب، وكما قال عليه السلام للصحابة وقد جهروا بالدعاء:" إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً اربعوا على أنفسكم ".﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ ﴾ أي مالك أمرك والناظر في مصلحتك. وفي نفسك متعلق باذكر وتضرعاً وخيفة مفعولان من أجله أي لتضرع وخيفة أو مصدران منصوبان على الحال أي متضرعاً وخائفاً.﴿ وَدُونَ ٱلْجَهْرِ ﴾ معطوف على قوله: في نفسك، أي ذكراً في نفسك وذكراً دون الجهر.﴿ بِٱلْغُدُوِّ ﴾ إن كان جمعاً لغداة فهو مقابل بالجمع وهو بالآصال، وإن كان مصدراً لغداء فيكون على حذف تقديره بأوقات الغدو. والظاهر اقتصار الأمر بالذكر على هذين الوقتين. وقيل: المراد بهما الأوقات، واقتصر عليهما لأنهما ظرفان للأوقات.﴿ وَٱلآصَالِ ﴾ هي العشايا جمع أصل وهي العشية ولما أمره تعالى بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استدم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له والمراد أمته.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾ هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العندية الزلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواظبة عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم باخبار ثلاثة: الأول نفي الاستكبار عن عبادته وذلك هو أصل إظهار العبودية، ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأن المستكبر يرى لنفسه شقوفاً ومزيّة فيمنعه ذلك من الطاعة. الثاني إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدسة. والثالث السجود له تعالى ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن السوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى. وفي الحديث:" أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ".