﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجملة. والمعنى أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم، وهم المجاهدون في سبيل الله، والذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ ﴾ معطوف على جاهدوا داخل في حيّز الصلة. ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ضمير جاهدوا أي جاهدوا غير متخذين وليجة أي خيانة. والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل وهي البطانة، والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار شبه النفاق به.﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله ﴾ الآية، روي أنه لما أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليّ يوبخ العباس. فقال العباس: تظهرون مساوءنا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قال: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً انا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم. وانتصب شاهدين على الحال، والعامل فيه يعمروا، وصاحب الحال هو الضمير وشهادتهم على أنفسهم بالكفر هو قولهم في الطواف: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملكْ. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم قالوا: نعبد اللات والعزى.﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ أعاد الضمير على لفظ من في قوله: آمن، وما عطف عليه، ثم راعى المعنى في قوله: فعسى أولئك. وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له هذه الهداية، فكيف بمن هو عار منها. وقال تعالى: ﴿ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾، أي من الذين سبقت لهم الهداية، ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين بل جعلوا بعضاً من المهتدين، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرّد لهم الحكم بالهداية.﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ ﴾ الآية، في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة. ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه. فنزلت هذه الآية. وسقاية هو على حذف مضاف تقديره ذوي سقاية الحاج فيعادل قوله: كمن آمن، ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وان الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بترك الإِيمان بالله تعالى وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله تعالى متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم.﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ ﴾ الآية، زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ديارهم التي نشاؤا فيها، ثم بالغوا في الجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس المعرضين بالجهاد للتلف فهذه الخصال أعظم درجات البشرية.


الصفحة التالية
Icon