﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ذكر ما عليه كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً، وان مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله، واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين الذميمتين أكل المال بالباطل وكنز المال. وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله تعالى، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإِسلام، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين مبتدأ اسم موصول ضمّن معنى اسم الشرط فلذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ ﴾.
والضمير في لا ينفقونها عائد على المكنوزات الدال عليها الذهب والفضة.﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا ﴾ الآية، يوم منصوب بقوله: اليم. والضمير في عليها عائد على المكنوزات يوقد عليها في نار جهنم إذ يجوز أن يخلق الله تلك المكنوزات فيحمى عليها.﴿ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ وخصصت هذه المواضع بالكيّ لأنه في الجبهة أشنع وفي الجنب والظهر أوجع، ولأنها مجوفة فتصل إلى أجوافهم النار بخلاف اليد والرجل.﴿ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ﴾ هو على إضمار قول تقديره فيقال لهم: هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فتكوى، أي هذا الكي جزاء ما كنزتم.﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ ﴾ الآية، كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليهم وأملقوا وكان بنو فُقَيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإِسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، أي أخّر عنّا حرمة الشهر المحرّم فاجعلها في صفر فيحل المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة الحرم ويسمون ذلك صفر المحرم، ويسمون ربيعاً الأول صفر، أو ربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم ويسمون الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم. وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا. قال مجاهد: ثم كانوا يحجون من كل عام شهرين ولاءً، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاءً، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فلذلك قوله:" ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب احكام الله تعالى لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإِذا غيروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله تعالى والشهور جمع كثرة. وأعاد الضمير عليها كإِعادته على الواحدة المؤنثة فقال: منها، أي من تلك الشهور، ولما كانت الأربعة الحرم للقلة عاد الضمير عليها بالنون في قوله: فيهن. تقول العرب: الجذوع انكسرت لأنه جمع كثرة. والأجذاع انكسْرنَ، لأنه جمع قلة. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله ألْ ولا يتصرف فيها بغير الحال وتقدم بسط الكلام فيها عند قوله تعالى:﴿ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً ﴾[البقرة: ٢٠٨] فأغنى عن إعادته والمعيّة بالنصر والتأييد، وفي ضمّنه الأمر بالتقوى والحث عليها.


الصفحة التالية
Icon