﴿ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ الآية، بيّن سبحانه وتعالى أن ذكورهم وإناثهم ليسوا من المؤمنين، كما قال تعالى:﴿ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ﴾[التوبة: ٥٦]، بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد، وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم، ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم:﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ ﴾ وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي.﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ ﴾ وهو الإِيمان والطاعات. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإِنفاق في سبيل الله. والنسيان هنا الترك، تركوا طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾ أي تركهم من الخير، وأما من الشر فلم ينسهم منه.﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ ﴾ الآية، والكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة لأن الخلود لم يقارن الوعد. و ﴿ حَسْبُهُمْ ﴾ كافيهم، وذلك مبالغة في عظم عذابهم إذ عذابهم شىء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب، ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد والأموال واستمتاعهم بما قدر لهم من الانصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم وأبرزهم بالإِسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإِعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم كذلك يدل بإِعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى:﴿ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً ﴾[مريم: ٤٤].
وكقوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
ولم يأت التركيب أنه كان ولا انهم هم.﴿ وَخُضْتُمْ ﴾ أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء. ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه قوله عليه السلام:" رُبّ متخوض في مال الله له النار يوم القيامة ".﴿ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ ﴾ أي كالخوض الذي خاضوا، قاله الفراء. وقيل: كالفوج الذي خاضوا. وقيل: النون محذوفة، أي كالذين خاضوا أي كخوض الذين خاضوا. وقيل: الذي مع ما بعدها ينسبك مصدراً أي كخوضهم. والظاهر أن أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد، والمعنى وأنتم كذلك تحبط أعمالكم.﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء. وكان لفظ: الذين من قبلهم، فيه إبهام نص على طوائف بأعيانها ستة لأنه كان عندهم شىء من أنبائهم وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عدداً وأنبياؤهم أعظم الأنبياء، نوح أول الرسل وإبراهيم الأقرب للعرب، وما بينهما من الأمم مقاربون لهم في الشدة وكثرة المال والولد، وقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود مَلِكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلمة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل وإمطار الحجارة عليهم.﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ لما ذكر تعالى المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض، إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولاية لله خاصة.﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ الآية، لما أعقب المنافقين بذكر ما أوعدهم به من نار جهنم أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنات ولما كان قوله: أولئك سيرحمهم الله وعداً جمالياً فصله هنا تنبيهاً على أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء.


الصفحة التالية
Icon