﴿ لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية، لكن وضعُها أن تقع بين متنافيين ولما تضمن قول المنافقين ذرنا استئذانهم في القعود كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد، وكأنه قيل: رضوا بكذا ولم يجاهدوا لكن الرسول جاهد والمعنى أن تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية. والخيرات: جمع خيرة، وهو المستحسن من كل شىء فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ. وكثر استعماله في النساء ومنه قوله تعالى:﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾[الرحمن: ٧٠].
﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ ﴾ الآية، وقرىء بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين، كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون سيصيبهم عذاب أليم. والمعذورون: هم أسد وغطفان. وقيل غير ذلك.﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء: جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمناً ويدخل فيه العُمْيُ والعرج. و ﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ﴾ هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاً عليهم كان له في ذلك ثواب جزيل" فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار وهو في أول الجيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الله عذرك. فقال: والله لأحْقِرَنّ بعرْجتي هذه في الجنة "وكان ابن أم مكتوم أعمى فخر إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى فضربت فأمسكه بصدره وقرأ: وما محمد إلا رسول، الآية. وشرط سبحانه وتعالى في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله وهي أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله تعالى من الغش ساعية في إيصال الخيرات للمؤمنين داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود:" لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم سيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلاّ وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر "وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله، بنصب الجلالة والمعطوف.﴿ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ أي من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام في كل من أحسن.﴿ لِتَحْمِلَهُمْ ﴾ أي على ظهر يركب ويحمل عليه آيات المجاهد. وإذا: تقتضي جواباً. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو. قلت: ويكون قوله: قولوا، جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم إذا أجَابَهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون قوله قلت: لا أجد استئنافاً مثله يعني مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا. فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: نعم ويحسُن. " انتهى ". ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب فكيف في كلام الله تعالى وهو فهم أعجمي. وتقدم الكلام على نحو:﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ ﴾[الآية: ٨٣] في المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأنّ كلها دمع فائض. ومن: للبيان، كقولك: أفديك من رجل. ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز. " انتهى ". ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإِنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة، وانتصب حزناً على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. و ﴿ أَلاَّ يَجِدُواْ ﴾ مفعول له أيضاً، والناصب له حزناً. وقال أيضاً: ويجوز أن يتعلق بتفيض. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له، والعامل فيه تفيض لأن العامل لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: ألا يجدوا ما ينفعون فيه، دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. وتقدم نفيان: نفي الجرح عمن ذكر. والثاني: نفي السبيل، بمعنى اللائمة، والعتب على المحسنين. فيكون قوله: ولا على الذين، معطوف على المحسنين عطف الخاص على العام ويحسن هذا قوله:﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ ﴾ الآية، أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين فدل لأجل المقابلة بأن هؤلاء مسيئون، وأي إساءة أعظم من النفاق، والتخلف عن الجهاد، والرغبة بأنفسهم عن رسول الله.﴿ رَضُواْ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ ﴾ الآية، لن نؤمن لكم، علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به فإِذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه.﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد لم يكن تصديقهم في معاذريهم.﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ ﴾ الآية، لما ذكر أنه يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وان سبب الحلف هو طلبهم أن تعرضوا عنهم فلا تلوموهم ولا توبخوهم. فأعرضوا عنهم، أي فأجيبوهم إلى طلبتهم وعلّل الاعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق فتجب مباعدتهم واجتنابهم، كما قال:﴿ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ ﴾[المائدة: ٩٠].
﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ الآية، قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف ابن أبيّ سرح ليكونن معه على عدوّه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فنزلت. وهنا حذف المحلوف به. وفي قوله: سيحلفون بالله، أثبت كقوله تعالى:﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا ﴾[القلم: ١٧].
وقوله: واقسموا بالله، فلا فرق بين إثباته وحذفه في انعقاد ذلك يميناً. وغرضهم في الحلف رضي الرسول عليه السلام والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم لا أنّ مقصدهم وجه الله والبر، إذ هي إيمان كاذبة وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإِعراض جاء الأمر بالإعراض نصاً لأن الإِعراض من الأمور التي تظهر للناس، وها ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية لأن الرضى من الأمور القلبية التي تخفى. وخرج مخرج المتردد فيه وجعل جوابه انتفاء رضى الله عنهم فصار رضى المؤمنين عنهم أبعد شىء في الوقوع، لأنه معلوم منهم لأنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضى وهو الفسق. وجاء اللفظ عاماً فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل: فإِن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.


الصفحة التالية
Icon