﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ﴾ الآية، مات قوم كان عملهم على الأمر الأول كاستقبال بيت المقدس وشرب الخمر فسأل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك. فنزلت، أي ما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يُبيّن لهم ما يتقونه أي يتجنبونه فلا يجدي ذلك فيهم فحينئذٍ يدوم إضلالهم.﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ ﴾ الآية، قال ابن عطية: التوبة من الله تعالى رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منها، وقد تكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد تكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته في هذه الآية على النبي لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشقاتها إلى حالة بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة في الدين. وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضى.﴿ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ أي اتبعوا أمره.﴿ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾ وهي الضيق والشدة والعدم. وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا "وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من تمر. وقال مجاهد وغيره: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإِبل ويشربون ما في كروشها من الماء، ويعصرون الفَرْثَ حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَفَع يديه يدعو فما رجّعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإِذا السحابة لم تخرج من العسكر وفي هذه الغزاة هموا من المجاعة بنحر الإِبل فأمر صلى الله عليه وسلم بجمع فضل ازوادهم حتى اجتمع منه على النطع شىء يسير فدعا فيه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم ملؤها حتى لم يبق وعاء وأكل القوم كلهم حتى شبعوا وفضلت فضلة وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم وفيها خلف علياً رضي الله عنه بالمدينة، فقال المنافقون: خلفه بغضاً له. فأخبره بقولهم فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. ووصل عليه السلام إلى أوائل بلاد العدو وبث السرايا فصالحه أهل أرزح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف. قال ابن عباس: ﴿ تَزِيغُ ﴾ تعدل عن الحق في المتابعة. وكاد تدل على القرب لا على التلبس بالزيغ. وقرىء: يزيغ بالياء فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن وارتفاع قلوب بيزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد. ويزيغ في موضع الخبر لأن النية به التأخير، ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرىء: بالتاء، فاحتمل أن يكون في كاد ضمير الشأن كقراءة الياء، واحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ويزيغ الخبر وُسّط بينهما كل فعل ذلك بكان. وفي هذين الإِعرابين كلام ذكر في البحر.﴿ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من الملاقة. وقيل: زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول عليه السلام على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود.﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ الآية معطوف على قوله والأنصار. ومعنى يخلفوا أي عن غزوة تبوك.﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ استعارة لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور وجرحت من فرط الوحشة والغم.﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ أي علموا. وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الحائزين لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن. أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة القصيرة. وجاءت هذه الجملة في كيف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم وثانياً:﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ﴾ هي كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولاً ضيق المحل، ثم ثانياً ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة، ثم ثالثاً لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى.﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ ﴾ ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا أو ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل لمن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة.


الصفحة التالية
Icon