﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ ﴾ الآية، سبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدب قحطوا سبع سنين فأتاه أبو سفيان فقال: ادع لنا بالخصب فإِن أخصبنا صدقناك فسأل الله تعالى لهم فسقوا ولم يؤمنوا. والرحمة هنا الغيث بعد القحط والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يداوم استعظامها مكر، وبلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي ينسى المكر أثر كشف الضر لا يمهل ذلك وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإِذا الشرطية أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل:﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالاسراعية أنه تعالى قبل أن تدبروا مكائدكم قضى بعقابكم وهو موقعة بكم واستدرجكم بإمهاله.﴿ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾ مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أن الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى وإذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله تعالى والمكر في آياته، وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً أوضح ذلك الأمر الكلي بمثال جليّ كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي، ينقطع فيه رجاء الإِنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى. وقرىء: ينشركم من النشر والبث ويسيركم من التسيير.﴿ وَجَرَيْنَ ﴾ النون عائدة على الفلك ويراد به الجمع إذ الفلك يكون مفرداً كقوله:﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾[الشعراء: ١١٩، يس: ٤١]، ويكون جمعاً كهذا ولهذا عاد الضمير عليه جمعاً. والباء في " بهم " للتعدية وفي " بريح " للسبب. وفي قوله: بهم، التفات إذ هو خروج من خطاب في قوله: كنتم، إلى غيبة في قوله: بهم وفرحوا وما بعد ذلك من ضمير الغيبة. قال الزمخشري: فائدة الإِلتفات في قوله: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها وتستدعي منهم الإِنكار والتقبيح. " انتهى ". والذي يظهر والله أعلم أن حكمة الإِلتفات هنا هي أن قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمه للمخاطبين والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار. والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالهُ آل الأمر في آخرها إلى أن المتلبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقوله: ﴿ جَآءَتْهَا ﴾ جواب إذا. و ﴿ عَاصِفٌ ﴾ صفة لريح على معنى النسب، أي ذات عصف إذ لو كانت جارية على الفعل لكانت بالتاء كقوله تعالى:﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً ﴾[الأنبياء: ٨١].
والمعنى من كل مكان من أمكنة الموج والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. ومعنى: ﴿ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ أي للهلاك كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك.﴿ دَعَوُاْ ٱللَّهَ ﴾ جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم في تلك الشدة؟ قيل: دعوا الله.﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف في موضع الحال تقديره مقسمين.﴿ مِنْ هَـٰذِهِ ﴾ أي من هذه الشدة.﴿ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ ﴾ الآية، وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها، دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبلها من الفعل الذي بعد لما وانها تفيد الترتيب والتعليق في المعنى، وانها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره: انها ظرف. وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإٍذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم بل بنفس ما وقع الانجاد وقع البغي. قال ابن عباس: يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. والخطاب " بيا أيها الناس " قال الجمهور: لأهل مكة والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله بغوا، ويحتمل كما قالوا العموم، فيندرج أولئك فيهم وهذا ذم للبغي في أوجز لفظ، ومعنى على أنفسكم وبال البغي ولا يجني ثمرته إلا أنتم. وقرىء: متاع بالنصب على الظرف، أي وقت متاع الحياة الدنيا. وقرىء: متاع بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو متاع، وأجاز النحاس وتبعه الزمخشري أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله: بغيكم كما تعلق في قوله: فبغي عليهم ويكون الخبر متاع إذا رفعته. ومعنى: ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ أي على أمثالكم، والذين جنسكم جنسهم يعني بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا.﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا بذكر من سعى فيها على سرعة زوالها وانقضائها وأنها بحال ما تغر وتسر تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول ومن السماء اما أن يراد به من السحاب واما أن يراد من جهة السماء. والظاهر أن النبات اختلط بالماء ومعنى الاختلاط تشبثه به وتلفقه إياه وقبوله له لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه. ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره بين أن المراد أحد القسمين بمن فقال:﴿ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ ﴾ كالحبوب والثمار والبقول والأنعام كالحشيش وسائر ما يرعى، ومما يأكل حال النبات. والعامل فيه محذوف تقديره كائناً مما يأكل. وما موصولة صلته يأكل. والضمير محذوف تقديره يأكله الناس. وحتى: غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية، فأما أن يقدر قبلها محذوف، أي فما زال ينمو حتى إذا او يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.. وقوله: ﴿ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ ﴾ جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة في كل لون فاكتست وتزينت بأنواع الحلي فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وألوان مختلفة. واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظ الزخرف وهو الذهب لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي بنباتها وما أودع فيها من الحبوب والثمار والأزهار.﴿ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ ﴾ أي على التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات. فالضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف، أي على ما أودعها من الغلات وما ينتفع به. وجواب إذا قوله: ﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا ﴾ كالريح والصر والسموم، وغير ذلك من الآفات كالفأر والجراد. وقيل: اتاها أمرنا بإِهلاكها. وابهم في قوله: ﴿ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾ وقد علم تعالى متى يأتيها أمره. أو تكون أو للتنويع، لأن بعض الأرض يأتيها أمره ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه. والحصيد فعيل بمعنى مفعول أي المحصود وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيد العلاقة بينهما من الطرح على الأرض.﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ ﴾ مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم تقم بالأرض للحبة خضرة نضرة تسر أهلها.﴿ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل.﴿ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ ﴾ لما ذكر تعالى مثل الحياة الدنيا وما تؤول إليه من الفناء والاضمحلال وما تضمنته من الآفات والعاهات، ذكر أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن وهي الجنة، وأهلها سالمون من كل مكروه. ولما كان الدعاء عاماً لم يتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال:﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ هدايته.