﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم ﴾ الآية، لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبّخهم ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة، فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه فمن السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية هُيّءَ الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معاً لم يقتصر على جهة واحدة توسعة منه وإحساناً، ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين السمع والبصر الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر الذي يرى ملكوت السماوات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما كما يشاء من إبقاء وحفظ وذهاب.﴿ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله تعالى أمر لا يمكنهم إنكاره ولا المباهتة فيه.﴿ فَذَلِكُمُ ﴾ إشارة إلى من اختص بهذه الأوصاف السابقة.﴿ فَمَاذَا ﴾ استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلاّ وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل: ما بعد الحق إلا الضلال. وماذا: مبتدأ ركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهام. كأنه قيل: أي شىء والخبر بعد الحق.﴿ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴾ أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف يشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شىء من تلك الأوصاف.﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ ﴾ الكاف: للتشبيه في موضع نصب. الإِشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من تصرفون، أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله: فسيقولون الله. حق العذاب عليهم، أي جازاهم مثل أفعالهم.﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ﴾ لما استفهم عن أشياء من صفات الله واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله تعالى، استفهم عن شىء هو سبب العبادة وهو إبداء الخلق وهم يسلمون ذلك لقوله:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾[لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] ليقولن الله، ثم إعادة الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطف على ما يسلمونه ليعلم أنهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وأن ذلك لوضوحه وقيام برهانه قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه فوجب اعتقاده، ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يجيب فقال:﴿ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بجزأيها فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبت ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزأيها في قوله: فسيقولون الله ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح جزأيها. ومعنى تؤفكون: تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ الآية، لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإِبداء والإِعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية، بيّن عجزهم عن هذا النوع من صفات الإِله وهو الهداية للحق وإلى منهاج الصواب، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع فقال تعالى حكاية عن الكليم قال:﴿ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾[طه: ٥٠]، فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع وهما حالان للجسد والروح. وقرىء: لا يهدي مخففاً مضارع هدى ويهدّي بفتح الهاء وتشديد الدال، وأصله يهتدي نقلت حركة التاء إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال. وقرىء: يهدي بكسر الهاء وتشديد الدال. وقرىء: بكسر الياء اتباعاً. بحركة الهاء وتشديد الدال يهدّي.﴿ فَمَا لَكُمْ ﴾ استفهام ومعناه التعجيب والإِنكار أي: أيّ شىء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم.﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ استفهام آخر، أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء، وهاتان جملتان: أنكر في الأولى وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثانية حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ﴾ الظاهر أن أكثرهم على بابه لأن منهم من تبصر في الأصنام فرفضها كما قال بعضهم: أَرَبٌ يبول الثعلبانُ برأسه   لقد هان من بالت عليه الثعالبَوالمعنى ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً ليسوا متبصرين ولا مستندين فيه إلى برهان إنما ذلك شىء تلقوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً، أي من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع.


الصفحة التالية
Icon