﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ الآية، لولا هنا للتحضيض صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد. والقرون: قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر إلا قليلاً استثناء منقطع أي لكن قليل من أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإِضافة إلى جماعاتهم. والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركوا النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه، أي نعّموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش النهي ورفضوا ما فيه صلاح دينهم.﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ أي ذوي جرائم غير ذلك. قال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر لأن المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم وكانوا مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. " انتهى ". جعل ما في قوله: ما أترفوا فيه، مصدرية ولهذا قدره اتبعوا، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضاً أن يكون معطوفاً على اتبعوا، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. وأجاز أيضاً أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون. " انتهى ". ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحويين لأنه آخر آية فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر.﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الآية، تقدم تفسير شبه هذه الآية في الانعام إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد وعلى مذهب البصريين توجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام تقديره مريداً الإِهلاك للقرى. قال ابن عطية: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه. تعالى الله عن ذلك ﴿ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ بالإِيمان به. وقال الزمخشري: وأهلها مصلحون تنزيهاً لذاته عن الظلم وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. " انتهى ". وهو مصادم للحديث:" أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث "وللآية:﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾[الأنفال: ٢٥].
﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكون أهل ملة واحدة، وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل فاختلفوا.﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ إلا أناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه." انتهى ". وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر لكنه تعالى لم يشأ ذلك.﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فلا يقع منهم اختلاف. والإِشارة بقوله: ﴿ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال الشاعر: إذا أنهى السفيه جرى إليه فعاد الضمير على المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قال: وللاختلاف خلقهم ويكون على حذف مضاف، أي ولثمرة الاختلاف من الشقاء والسعادة خلقهم. وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام أولاً من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. " انتهى ". وهذا على طريقة الاعتزال.﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ أي نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في ﴿ لأَمْلأَنَّ ﴾ هي التي يتلقى بها القسم إذ الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾[آل عمران: ٨١]، ثم قال: لتؤمنن به، والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة وان كان الخبر يقع على الواحد فالجنة جمعه. " انتهى ". فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء وجمعه بالهاء كقول بعض العرب: كم للواحد، وكمأة للجمع.﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ ﴾ مفعول به والعامل فيه نقص، والتنوين عوض عن المحذوف والتقدير وكل نبأ نقص عليك. ومن نبأ الرسل في موضع الصفة لقوله: ولاك، إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة. وما: زائدة كما هي في قوله:﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾[الأعراف: ٣].
﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ قال ابن عباس: ما نسكن به فؤادك وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم السلام، ولاتباعهم المؤمنين، وما لقوا من تكذيبهم من الأذى، ففي هذا كله أسوة بهم إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإِنسان من الأذى، ثم الاعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع العذاب من الغرق والريح والرجفة وخسف وغير ذلك فيه طمأنينة النفس وتأنيس. والإِشارة بقوله: ﴿ فِي هَـٰذِهِ ﴾، إلى أبناء الرسل التي قصها الله تعالى عليه أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق لما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف كما ينقل شيئاً من ذلك المؤرخون.﴿ وَمَوْعِظَةٌ ﴾ أي اتعاظ وازدجار لسامعه.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ لمن آمن إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بهما إلا المؤمن لقوله تعالى:﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الذاريات: ٥٥].
﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، اعملوا صيغة أمر ومعناه التهديد والوعيد. والخطاب لأهل مكة وغيرها.﴿ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي جهتكم وحالتكم التي أنتم عليها.﴿ وَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾ بنا الدوائر.﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.﴿ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، أضاف تعالى علم الغيب بما في السماوات والأرض له توسعاً لا يخفى عليه شىء في أعمالكم، ولاحَظَّ لمخلوق في علم الغيب، فالجملة الأولى: دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليّها وجزئّيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية: دلت على القدرة النافذة والمشيئة. والجملة الثالثة: دلت على الأمر بإِفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب الذي يتحلى بها العبد. والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل وهي أخيرة الرتب لأنه بنور العبادة أبصر أن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها لا يشركه في شىء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شىء منها. والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.