﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾ الآية، لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ويجوز فيه الوجهان، ونسوة كما ذكرنا جمع قلة وكنّ على ما نقل خمساً امرأة خبازة وامرأة ساقية وامرأة بوابة وامرأة سجانة وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر، ومعني في المدينة أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف وصرحوا بإِضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الأخطار، وما يجري لهم وعبّرْنَ بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها تخادعه دائماً عن نفسه، كما تقول: زيد يعطي ويمنع. ولم يقلن: راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونها قد شغفها حباً أي بلغ حبه شغاف قلبها الشغاف حجاب القلب وقيل سويداؤه. وقال امرؤ القيس: أتقتلني اني شغفت فؤادها كما شغف المهنوءة الرجل الطاليوانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل. والفتى: الغلام وعرفه في المملوك في الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ليقل: فتاي وفتاتي. وقد قيل غير المملوك وأصل الفتى في اللغة الشاب ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى، ثم نقمْن ذلك عليها فقلت: ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بين واضح للناس.﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بأمرأة العزيز ومكرهن هو اغتيابهن إياها وسوء مقالتهن فيها انها عشقت يوسف وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره.﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ الضمير عائد على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.﴿ وَأَعْتَدَتْ ﴾ أي عدت.﴿ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ﴾ أي يسرت وهيأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخاد والوسائد وغير ذلك.﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾ ومعلوم أن مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين فقيل كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين.﴿ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ هذا الخطاب ليوسف عليه السلام وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه وفي الكلام حذف تقديره فخرج عليهن ومعنى أكبرنه أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع قيل كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ أي جرحنها كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي والتضعيف للتكثير فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف فكأنها غابت عن حسها والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم ولما فعلن هذه الفعل الصعب من جرح أيديهن وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه.﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ ﴾ أي حاشا يوسف أن يقارف ما رمته به ومعنى لله لطاعة الله أو لمكانته من الله أو لترفيع الله أن يرمى بما رمته به أو يذعن إلى مثله لأن تلك أفعال البشر وهو ليس منهم إنما ملك فعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله. قال الزمخشري: حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال حاشا أبي ثوبان ان به ضنا عن الملحاة والشتموهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة فمعنى حاشا الله أي براءة الله وتنزيه الله انتهى ما ذكره من أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين لا فرق بين قولك قام القوم إلا زيد أو قام القوم حاشا زيد ولما مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد ومنهم هو من التمثيل براءة زيد من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع وأما ما أنشده: حاشا أبي ثوبان البيت فهكذا أنشده أيضاً أبي عطية وأكثر النحاة وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز بيت آخر وهما من بيتين وهما: حاشا أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببكمه قدمعمرو بن عبد الله ان به ضنا عن الملحاة والشتم﴿ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾ ولما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإِنسان نفين عنه البشرية وأثبتن له الملكية لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك وان كان لا يرى وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب: فلست لأنسى ولكن لملاك تنزل من جوّ السماء يصوب وقال بعض المحدثين: قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتاًوانتصاب بشراً على لغة الحجاز وكذا جاء ما هن أمهاتهم فما منكم من أحد عنه حاجزين ولغة تميم الرفع قال ابن عطية: ولم يقرأ به وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع وهي قراءة ابن مسعود " انتهى ".﴿ قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ ذا اسم إشارة واللام لبعد المشار وكن خطاب لتلك النسوة والمعنى أن هذا الذي صدر منكن من الاكبار وتقطيع الأيدي ونفي البشرية عنه وإثبات الملكية له هو الذي لمتنني فيه أي في محبته ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها.﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ ﴾ وما موصولة والضمير في ما آمره عائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف تقديره ما آمره به أي من الموافقة فيما أريد واللام في لئن مؤذنة بقسم محذوف وجوابه.﴿ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ وجاءت النون المشددة لأنها آكد من المخففة ثم عطف عليه.﴿ وَلَيَكُوناً ﴾ بالنون الخفيفة لأن الصغار أخف من السجن فقالت له النسوة أطع وافعل ما أمرتك به فقال:﴿ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ ﴾ فاسند الفعل إليهن كلهن لما نصحن له وزين له مطاوعتها ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار الذل فالتجأ إلى الله والتقدير دخول السجن أحب إلي وقرأ يعقوب وجماعة السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي حبسهم إياي في السجن أحب إلي وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل لأنه لم يحبب ما يدعونه إليه قط وإنما هذان شران فآثر أحد الشرين على الآخر وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة لكن لما ترتب على تلك اللذة من معصية الله تعالى وسوء العاقبة لم يخطر له ببال ولما في الآخر من احتمال المشقة والصبر على النوائب وانتظار الفرج داعياً له في تخليصه آثره ثم ناط العصمة بالله واستسلم له كعادة الأنبياء والصالحين وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو فقال.﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي أمل إلى ما دعونني إليه وجعل الشرط قوله: إليهن.﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ أي من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: والا تصرف عني فيه معنى طلب الصرف والدعاء وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن.﴿ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾ أي حال بينه وبين المعصية.﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لدعاء الملتجىء إليه.﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بأحواله وما انطوت عليه نياته.﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ ﴾ أي ظهر والفاعل لبدا ضمير ويفسره ما يدل عليه المعنى أي بدا لهم هو أي رأى وبدا كما قال الشاعر: بدا لك من تلك القلوص بداء هكذا قاله النحاة والمفسرون إلا من أجاز أن يكون الجملة فاعلة فإِنه زعم أن قوله ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي سجنه حتى حين والرد على هذا المذهب مذكور في النحو والذي أذهب إليه الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله ليسجنن أو من قوله السجن على قراءة الجمهور أو السجن على قراءة من قرأ بفتح السين والضمير في لهم للعزيز وأهله والآيات هي الشواهد الدالة على براءة يوسف وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين حتى حين والمعنى إلى زمان والحين يدل على مطلق الوقت ومن عين له هناز زماناً فإِنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف لا أنه موضوع في اللغة لذلك وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وعشقه لها وجعله زمام أمره بيدها هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف عليه السلام وروي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها ان هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره وأنا محبوسة محجوبة فاما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته وإلا حبسته كما أنا محبوسة فحينئذٍ بدا لهم سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر ان يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾ الآية في الكلام حذف تقديره فسجنوه فدخل معه فتيان روي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان أحدهما خبازه والآخر ساقيه واتهمهما الملك بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي فسجنهما ومع تدل على الصحبة واستحداثها فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله كان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويهديهم إلى الخير فأحبه الفتيان ولزماه وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له كن في أي البيوت شئت وكان يوسف صلى الله عليه وسلم قال لأهل السجن إني أعبر الرؤيا وأجيد ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع الضمير المتصل وكلاهما المدلول واحد ولا يجوز أن يقول اضربني ولا أكرمني واعصر في موضع المفعول الثاني وخمراً ليس المعصور إنما عصر ما يؤول ماؤه إلى الخمر فعبر عنه بما يكون مآله إلى الخمرية نبئنا يدل على أنه كان نبأهم على أنه كان يحسن تعبير الرؤيا.