﴿ فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ ﴾ ان زائدة للتأكيد وزيادتها بعد لما قياس مطرد قال ابن عباس: البشير كان يهوذاً لأنه كان جاء بقميص الدم والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير وقوله:﴿ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من حياة يوسف وإن الله تعالى يجمع بيننا ولما رجع إليه بصره وقرت عينيه بالمسير إلى ابنه يوسف وقررهم على قوله:﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ ﴾ طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم واعترفوا بالخطأ السابق منهم وسوف أستغفر لكم عدة لهم بالاستغفار بسوف وهي ابلغ في التنفيس من السين فعن ابن مسعود أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر وعن ابن عباس إلى ليلة الجمعة وعنه إلى سحرها ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله: انه هو الغفور الرحيم وفي الكلام حذف تقديره فامتثلوا ما أمرهم به يوسف من الذهاب والإِتيان بأهلهم.﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ الآية، ذكروا أن يوسف جهز إلى أبيه جهاز أو مائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام قيل والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعون مصر، قال: لا، ولكن هذا ولدك فلما لقيه يعقوب قال: السلام عليك يا مذهب الأحزان آوى إليه إبويه أي ضمهما إليه وعانقهما والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل فقال الحسن وابن إسحاق: كانت أمه بالحياة وظاهر قوله: ادخلوا مصر إنه أمر بإِنشاء دخول مصر، قال السدي: قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم " انتهى ". فيبقى قوله: فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب لهم مضرب أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه ومعنى ادخلوا أي تمكنوا واستقروا فيها والظاهر تعليق الدخول على مشيئة الله تعالى لما أمرهم بالدخول علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئته تعالى وما لم يشأ لم يكن.﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾ والعرش سرير الملك ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخصهما بذلك تكريماً لهما دون إخوته والضمير في:﴿ وَخَرُّواْ ﴾ عائد على أبويه واخوته وظاهر قوله: وخروا له سجداً انه السجود المعهود وان الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله:﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾[يوسف: ٤] الآية، وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة وتقبيل اليد والقيام مما شهر بين الناس من باب التعظيم والتوقير.﴿ وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ أي سجودكم هذا تأويل أي عاقبة رؤياي ان تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ومن متعلق برؤياي والمحذوف في من قبل تقديره من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي ثم ابتدأ يوسف بتعديد نعم الله تعالى عليه فقال:﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ أي صادقة رأيت ما وقع لي في منام يقظة حقيقة لا باطل فيها ولا لغو وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض وأحسن أصله أن يتعدى بإِلى قال تعالى:﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾[القصص: ٧٧] وقد يتعدى بالباء قال تعالى:﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾[البقرة: ٨٣] وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً عن ذكر ما يتعلق بفعل إخوته وتناسياً لما جرى منهم إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وتنبيهاً على طهارة نفسه براءتها مما نسب إليه من المراودة وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب إلى أن بيع العبيد.﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ ﴾ أي من البادية وكان منزل يعقوب بأطراف الشام بالبادية بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية وقابل يوسف نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو والإِشارة بذلك إلى الاجتماع بأبيه وأخوته وزوال حزن أبيه. وفي الحديث: من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة.﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي أفسد وتقدم الكلام على نزغ وأشد النزوغ إلى الشيطان لأنه هو الموسوس كما قال تعالى:﴿ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾[البقرة: ٣٦].
وذكر هذا القدر من أمر أخوته لأن النعمة إذا جاءت أثر بلاء وشدة كانت أحسن موقعاً.﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ﴾ أي لطيف التدبير.﴿ لِّمَا يَشَآءُ ﴾ من الأمور رفيق ومن في قوله من الملك وفي من تأويل للتبعيض لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ولا علم إلا بعض التأويل وانتصب فاطر على الصفة أو على النداء.﴿ أَنتَ وَلِيِّي ﴾ تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي وذكر كثير من المفسرين أنه لما عدد نعم الله عليه تشوف إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت وإنما عدد نعمه تعالى عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي توفني إذا حان أجلي على الإِسلام وأجعل لحاقي بالصالحين وإنما تمنى الوفاة على الإِسلام لا الموت والصالحين أهل الجنة وقيل غير ذلك وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام وله من الولد أفراثيم ومنشأ ورحمة زوجة أيوب قال الزهري: وولد لافراثيم نون ولنون يوشع وهو فتى موسى وولد لمنشأ موسى وهو قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر وكان ابن عباس ينكر ذلك وثبت في الحديث الصحيح أن صاحب الخضر موسى بن عمران وتوارثت الفراعنة ملك مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام وأبيه إلى أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً شافياً وأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون سبباً لإِسلامهم فخالفوا تأميله فعزاه الله بقوله: وما أكثر الناس الآيات والإِشارة بذلك إلى ما قصه الله تعالى من قصة يوسف وإخوته.﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ولا حين ألقوه فيه ولا حين التقطته السيارة ولا حين بيع.﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ أي يبغون الغوائل اليوسف ويتشاورون فيما يفعلون به أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النوع في علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وتقدم نظير ذلك في آل عمران وفي هود وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من جملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقي فيه أحداً يعلمه بشىء من ذلك ولم يسمع منه ولم يكن من علم قومه فإِذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهه من أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي فإِذا أنكروه تهكم بهم وقيل لهم قد علمتم أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية ونحوه﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ ﴾[القصص: ٤٤] فقوله: وما كنت هناك على جهة التهكم بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم وأجمعوا أمرهم أي عزموا على إلقاء يوسف في الجب وهم يمكرون جملة حالية والمكر أن يدبر على الإِنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس الظاهر العموم لقوله تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[هود: ١٧] وعن ابن عباس أنهم أهل مكة.﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر وجواب لو محذوف أي ولو حرصت لم يؤمنوا إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه والضمير في عليه عائد على ما يحدثهم به ويذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى كما يعطي حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا عظة وذكر من الله تعالى للعالمين عامة وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإِيمان فيعرضون عنها ولا تفيد عندهم شيئاً ولا تؤثر فيهم وان تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي ومعنى يمرون عليها أي يمشون عليها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.﴿ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ جملة حالية أي إيمانهم ملتبس بالشرك قال ابن عباس: هم أهل الكتاب أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon