﴿ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ﴾ بدأ بحال المؤمن وتثبيته في الدنيا كونه لو فتن عن دينه في الدنيا لثبت عليه وما زال كما جرى لأصحاب الأخدود ثم ذكر حال الكافر بقوله:﴿ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض عليه فيما خص به كل واحد منهما إذ ذاك راجع إلى مشيئة الله تعالى فقال:﴿ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾ لا يسأل عما يفعل.﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً ﴾ الآية، الذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين وسأل ابن عباس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هما الأبحران من قريش أخوالي أي بني مخزوم واستؤصلوا ببدر وأعمامك أي بني أمية وبدل يتعدى إلى اثنين أحدهما بالباء أو ما جرى مجراها وقد تحذف الباء وهي هنا محذوفة تقديره بنعمة الله أي بشكر نعمة الله وتقدّم الكلام على مثل ذلك في قوله تعالى:﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ ﴾[البقرة: ١٠٨].
﴿ وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ ﴾ أي دار الهلاك وجهنم بدل من قوله دار البوار والمخصوص بالذم محذوف تقديره وبئس القرار هي أي جهنم.﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ أي زادوا إلى كفر نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوها آلهة من دون الله والظاهر أن اللام لام الصيرورة والمآل لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة آل إلى الضلال والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد.﴿ قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، لما ذكر حال الكفار وكفرهم نعمته وجعلهم أنداداً وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم والتزام عمودي الإِسلام والصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة ومعمول قبل محذوف تقديره وأقيموا الصلاة ويقيموا جواب لهذا الأمر المحذوف وعلامة الجزم فيه حذف النون. قال ابن عطية: ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أي قوله: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ " انتهى ". وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله: " الله الذي خلق " الآية، تفكيك للكلام يخالفه ترتيب التركيب ويكون قوله: " يقيموا الصلاة " كلاماً مفلتاً من القول ومعموله أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله ولا يترتب أن يكون جواباً لأن قوله تعالى: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ لا يستدعي إقامة الصلاة والانفاق إلا بعد تقدير بعيد جداً وتقدم الكلام على قوله تعالى: ﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ في البقرة ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع فقال: " الله الذي خلق " الآية، وذكر أنواعاً من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاءه السماوات والأرض ثم أعقب بباقي الدلائل وأبرزها في جملة مستقلة ليدل وينبه على أن كل جملة منها مستقلة في الدلالة ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ولفظ الجلالة الله مرفوع على الابتداء والذي خبره. قال ابن عطية: ويجوز أن تكون من لبيان الجنس كأنه قال: " فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات ". وهذا ليس بجيد لأن من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج رزقاً حالاً من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق وقيل من زائدة " انتهى ". هذا لا يجوز عند جمهور البصريين لأن ما قبلها واجب وبعدها معرفة ويجوز عند الأخفش وانتصب دائبين على الحال والمعنى يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات والضمير المنصوب في سألتموه عائد على ما وهي وموصولة بمعنى الذي والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع كأنه قيل: " وان تعدوا نعم الله " ومعنى لا تحصوها لا تحصروها ولا تطبقوا عددها والمراد بالإِنسان هما الجنس أي توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر يظلم النعمة بإِغفال شكرها ويكفرها يجحدها وجاء في النحل " وان تعدوا نعمة الله " وجاءت مختتمة بقوله:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[النحل: ١٨] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر التعجب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا من دون الله آلهة وكان من نعمة الله عليهم إسكانه إياهم حرمه أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة ودعا بأن يجنب بنيه عبادة الأصنام.﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾ كقوم نوح.﴿ فَمَن تَبِعَنِي ﴾ أي على ديني وما أنا عليه.﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ جعله بعضه لفرط الاختصاص به وملابسته له.﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ هذا فيه طباق معنوي لأن التبعية طاعة.﴿ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ معناه لمن عصاه بغير الشرك.﴿ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ الآية، كرر النداء رغبة في الإِجابة وإظهاراً للتذلل والالتجاء إلى الله وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه في قوله: وأجنبي وبني. و ﴿ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾ هو إسماعيل ومن ولد منه وذلك أن هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة فنزل وأنزل ابنه وأمته هنالك وركب منصرفاً من يومه ذلك وكان هذا كله بوحي من الله فلما ولى دعا بما في ضمن هذه الآية ومن للتبعيض لأن إسحاق كان بالشام والوادي ما بين الجبلين وليس من شرطه فيه ماء وإنما قال: غير ذي زرع لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي وأنه يرزقهما الماء.﴿ لِيُقِيمُواْ ﴾ متعلق بأسكنت وربنا دعاء معترض والمعنى أنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة ومن للتبعيض. قال الزمخشري: بواد هو وادي مكة غير ذي زرع لا يكون فيه شىء من زرع قط كقوله تعالى:﴿ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾[الزمر: ٢٨] بمعنى لا يوجد فيه إعوجاج ما فيه إلا استقامة لا غير " انتهى ". استعمل قط وهو ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله: لا يكون وهو ليس ماضياً وهو مكان ابدا الذي يستعمل فيه مع غير الماضي من المستقبلات. و ﴿ أَفْئِدَةً ﴾ وهو على حذف مضاف تقديره ذوي أفئدة وأصل الهوى أن يكون من علو. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون من للابتداء كقولك: القلب مني سقيم يريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة لتناول بعض الأفئدة " انتهى ". لا يظهر كونها لابتداء الغاية لأنه ليس لها فعل يبتدأ به لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة.﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ الآية، كرر النداء للتضرع والالتجاء ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب الى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه ويعلنونه ثم أتى بأعم منه وهو قوله تعالى:﴿ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ والظاهر أن هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام لم تقع منه في زمن واحد وإنما حكى الله تعالى عنه ما وقع منه في أزمان مختلفة يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه إذ ترك هاجر والطفل بمكة والظاهر أن حمده الله على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق.