﴿ لاَ تَمُدَّنَّ ﴾ ظاهره أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى نهي أمته عن ذلك لأن من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن الاشتغال بزهرة الدنيا ومد العين للشىء إنما هو لاستحسانه وإيثاره.﴿ أَزْوَاجاً ﴾ أي أصنافاً ونهاه تعالى عن الحزن عليهم ان لم يؤمنوا وكان كثير الشفقة على من بعث إليه وأمره بخفض الجناح لمن آمن وهي كناية عن اللطف والرفق وأصله ان الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه له ثم قبضه على فرخه والجناحان من ابن آدم جانباه ثم أمره بأن يبلغ أنه النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم ان لم تؤمنوا.﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ﴾ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ ﴾[الحجر: ٨٧] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على المقتسمين القرآن فنسبوه إلى سحر وكذب وافتراء ومعنى عضين أي فرقاً والثاني أن يكون متعلقاً بقوله: اني أنا النذير المبين، أي إنذارك مثل إنذار المقسمين قال الزمخشري: فيه وجهان أحدهما: أن يتعلق بقوله: ولقد آتيناك، أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم بعضه حق موافق للتوراة والإِنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول آخر سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض والنصارى أقرت ببعض الإِنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم: سحر وشعر وأساطير الأولين، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني: أن يتعلق بقوله: وقل: إني أنا النذير المبين، أي وانذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة والنضير جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإِعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر العضين الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر: كذاب، ويقول الآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقتلهم بآفات كالوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم. فإِن قلت إذا علقت قوله: كما أنزلنا بقوله: ولقد آتيناك. فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره، قلت لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الإِلتفات إلى دنياهم والتأسف على كونهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين " انتهى ". أما الوجه الأول: وهو تعلق كما بآتينا فذكره أبو البقاء على تقدير وهو أن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالاً كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله: ان المقسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه الحوفي عن ابن عباس. وأما قوله: (اقتسموا القرآن) فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير، وأما قوله: اقتسموا، فقال بعضهم سورة البقرة إلى آخره. فقال عكرمة: وقال السدي: هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد والعاصي والحارث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل النمل لي ومن قائل الذباب لي وآخر العنكبوت لي استهزاء فأهلكهم الله جميعهم وأما قوله: إن القرآن عبارة عما يقرؤونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد: وأما قوله: ويجوز ان يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي إنذر العضين فلا يجوز أن يكون منصوباً بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقولك شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية ذكرت دلائلها في علم النحو، وأما قوله: الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير، فمروي عن قتادة إلا أنه قال: بدل شعر كهانة، وأما قوله: الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه ان الوليد بن المغيرة قال: ليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم غاو وهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة ابن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة، تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلكوا جمعياً وأما قوله انهم الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً فقول عبد الله بن زيد قال ابن عطية: والكاف في كما متعلقة بفعل محذوف تقديره وقل إني أنا النذير عذاباً كالذي أنزلناه على المقتسمين؛ فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس هو مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من قول الله فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدر بأن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما والذي أقول في هذا المعنى وقل: إني أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل: إني أنا النذير المبين قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً أو هذا على أن المقتسمين أهل الكتاب " انتهى ". أما قوله: وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره انا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وان كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وان كان الملك هو الآمر وأما قوله والذي أقوله في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم.﴿ عِضِينَ ﴾ جمع عضة وهو جمع لا ينقاس جمع بالواو رفعاً وبالياء نصباً وجراً ولامه أصلها واو أو هاء يقال: عضيت تعضية أي فرقت وكل فرقة عضة يقولون للساحر عاضه وللساحر عاضهة والضمير في لنسألنهم يظهر عوده على المقتسمين وهو وعيد وسؤال تقريع.﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ الصدع الشق وتصدّع القوم تفرقوا وصدعته فانصدع أي شققته فانشق وقال مؤرج أصدع أفصل. وقال ابن الأعرابي: أفصد وما في بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف تقديره أمرته أي به وأمر يتعدى إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر ويجوز حذفه وقد جمع الشاعر بينهما قال: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به   فقد تركتك ذا مال وذا نشبوالمفعول الأول في الآية هو ضمير المخاطب المستكن في تؤمر والثاني الهاء المحذوفة العائدة على ما الموصولة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبنى المفعول " انتهى ". هذا ينبني على مذهب من يجوز أن يكون المصدر يراد به ان والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكلف لها مشقة. قال عروة وابن جبير هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن بني خزاعة الحرب بن الطلاطلة.﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلهاً مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكني بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عما نسبوه إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوباً بحمده والثناء عليه على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد أنه من المصلين وكني بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه عليه السلام ما زال متلبساً بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة وقيل ليس باليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل نسمي يقيناً تجوزا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه.


الصفحة التالية
Icon