﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * كۤهيعۤصۤ ﴾ الآية هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها وقال مقاتل: إلا آية السجدة فهي مدنية ونزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة التي قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف وقصة الرجلين وقصة موسى مع الخضر وقصة ذي القرنين وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فان وعجوز عاقر وولادة عيسى من غير أب فلما اجتمعا في هذا الشىء المغرب ناسب ذكر هذه الآية بعد تلك وتقدم الكلام في أول البقرة على الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك وذكر خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلوّ من القرآن ذكر وقرىء: ذكر فعلاً ماضياً رحمة بالنصب وقرىء: ذكر فعل أمر من التذكير رحمة بالنصب وعبده نصب بالرحم أي: ذكر أن رحمة ربك عبده وذكر في السبعة كما تقدم * ورحمة مصدر لا يراد بها أنها واحدة من الرحمات لأنه إذ ذاك لا ينصب المفعول لا يجوز أن تقول أعجبني ضربه زيد عمراً لأنه إذ ذاك محدود بالوحدة فلا يعمل. و ﴿ زَكَرِيَّآ ﴾ بدل أو عطف بيان وإذ ظرف العامل فيه ذكر أو رحمة ووصف النداء بالخفي لئلا يخالطه رياء وقيل غير ذلك.﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي ﴾ هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإِذا وهن تداعى وسقطت قوته وقرىء: وهن بفتح الهاء وكسرها.﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾ شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأسه وإلى هذا نظر ابن دريد فقال: واشتعل المبيض في مسوده   مثل اشتعال النار في جزل الغضا﴿ وَلَمْ أَكُنْ ﴾ يغني فيما مضى أي ما كنت.﴿ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾ بل كنت سعيداً موفقاً إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك فعلى هذا الكاف مفعول وقيل المعنى بدعائك لي إلى الإِيمان شقياً بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصاً فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول وروي أن حاتماً الطائي أتاه طالب حاجة فقال: أنا الذي أحسنت إليك وقت كذا فقال: مرحباً بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.﴿ وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى ﴾ الموالي بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب*. وقال الشاعر: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا   تنبشوا بيننا ما كان مدفوناًوالأظهر اللائق بزكريا من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا وكذلك قول من قال إنما خاف أن تنقطع النبوة من ولده وترجع إلى عصبته لأن ذلك إنما هو لله يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاؤه ويصطفيه من عباده وقرىء:﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ ﴾ بجزمهما جواباً للأمر وهو هب وبرفعهما على الصفة لقوله: ولياً والظاهر أن الإِرث يكون في العلم والدين والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم. و ﴿ رَضِيّاً ﴾ بمعنى مرضي.﴿ يٰزَكَرِيَّآ ﴾ أي قيل له بأثر الدعاء والمنادي والمبشر لزكريا هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى:﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾[آل عمران: ٣٩] الآية والغلام الولد الذكر وقد يقال على الأنثى غلامه والظاهر أن يحيى ليس عربياً لأنه لم يكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة.﴿ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ أي من قبل ولادته من تسمى باسمه بل هو منفرد بتسمية يحيى وأنى بمعنى كيف وتقدم الكلام عليها في قوله: قال رب أنى يكون لي غلام في آل عمران والقي المبالغة في الكبر ويبس العود يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.﴿ قَالَ كَذٰلِكَ ﴾ أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ.﴿ قَالَ رَبُّكَ ﴾ فالكاف رفع أو نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله:﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهو ضمير معناه إيجاده عليّ هين.﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل ولادة يحيى يشير إلى عظيم قدرته.﴿ تَكُ شَيْئاً ﴾ أي في حيز العدم والمعدوم لا يسمى شيئاً.﴿ قَالَ ﴾ أي زكريا.﴿ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً ﴾ أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقينه كما قال إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي لا لتوقف منه صدق ما وعد به ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك قال: آيتك روي ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحداً ومع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله فإِذا أراد مقاولة أحد لم يطقه. و ﴿ سَوِيّاً ﴾ حال من ضمير ألا تكلم أي في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة وعن ابن عباس سوياً عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن وقرىء: ألا تكلم بالرفع جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم وقرىء: بالنصب على أنها الناصبة للمضارع.﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ ﴾ أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس ومحرابه موضع مصلاه والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران.﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ ﴾ أي أشار إليهم ويشهد له قوله: إلا رمزاً.﴿ يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله تعالى له على لسان ملك يا يحيى خذ الكتاب ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً ﴾ والكتاب التوراة * قال ابن عطية: هو التوراة بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإِنجيل موجوداً " انتهى " ليس كما قال بل قيل انه كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك وقيل الكتاب هنا اسم جنس أي اتل كتاب الله تعالى وقيل الكتاب صحف إبراهيم والحكم النبوة وصبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة وعن ابن عباس في حديث مرفوع ابن سبع سنين.﴿ وَحَنَاناً ﴾ معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس * قال أبو عبيدة: تحنن على هواك المليك   فإِن لكل مقام مقالاقال وأكثر ما يستعمل مثنى كما قال الشاعر: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا   حنانيك بعض الشر أهون من بعض﴿ وَزَكَاةً ﴾ أي طهارة.﴿ وَكَانَ تَقِيّاً ﴾ قل قتادة: لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا هم بامرأة.﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ﴾ أي كثير البر والإِكرام والتبجيل.﴿ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً ﴾ أي منكراً عصياً أي كثير العصيان.﴿ وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ﴾ أي أمان عليه والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإِنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى.﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ ﴾ الآية لما تقدم قصة زكريا مع ما فيها من الغرابة أعقب بما هو أغرب منها وهو وجود ولد من غير ذكر وإذ ظرف لما معنى لا يعمل فيه أذكر لأنه مستقبل بل التقدير واذكر ما جرى لمريم وقت كذا.﴿ ٱنتَبَذَتْ ﴾ افتعل من نبذ ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت وانتصب مكاناً على الظرف أي في مكان ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس.﴿ حِجَاباً ﴾ أي حائطاً أو لشىء يسترها والظاهر أن الروح هو جبريل وانتصب بشراً على أنه حال ووصفه بقوله: سوياً أي كامل الصورة حسن الأعضاء وضيء الوجه وإنما مثله لها في صورة الإِنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على السماع لكلامه ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبراً لعفتها وجواب أن في قوله: إن كنت محذوف تقديره ان كنت تقياً فاذهب عني.﴿ قَالَ ﴾ أي جبريل.﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك وهو الذي استعاذت به وقوله لها ذلك تطمين لها واني لست ممن يظن به ريبة أرسلني إليك.﴿ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً ﴾ وقرىء: ليهب بالياء وفيه ضمير يعود على الله تعالى وقرىء: بالهمز أسند الهبة إلى نفسه على سبيل المجاز إذ الواهب هو الله تعجبت مريم وعلمت بما ألقى في روعها أنه من عند الله وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها ولم أك بغياً تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بسفاح أو بنكاح والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبل الياء لتصح الياء.﴿ قَالَ كَذٰلِكَ ﴾ الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا.﴿ وَلِنَجْعَلَهُ ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا ولنجعله أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك والضمير في ولنجعله عائد على الغلام وكذلك في قوله وكان أي وجوده أمراً مفروغاً وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك.﴿ فَحَمَلَتْهُ ﴾ أي في بطنها وذكروا أقوالاً كثيرة مضطربة في مدة الحمل.﴿ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ أي مكاناً بعيداً.﴿ فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ ﴾ أي ساقها المخاض وهو الطلق بالألم الذي يلحقها لانزعاج الولد في بطنها للخروج فأجاءها أي جاء بها تعدى جاء تارة بالباء وتارة بالهمز قال الزمخشري إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإِلجاء ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاء فيه كما تقول بلغنيه وأبلغنيه ونظيره أتى حيث لم تستعمل في الاعطاء ولم تقل آتيت المكان وآتانيه فلان " انتهى " أما قوله: وقول غيره ان الاستعمال غيره إلى معنى الإِلجاء فيحتاج إلى نقل الأئمة المستقرئين ذلك على لسان العرب والإِجاءة تدل على المطلق فيصلح لما هو بمعنى الإِلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت أقمت زيداً فإِنه قد يكون مختاراً لذلك وقد تكون قد فسرته على القيام وأما قوله له: ألا تراك إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز ذلك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياسا فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا أجاء فيجيز ذلك وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية وأن أصله أأتى وليس كذلك بل آتى مما بني على أفعل فليس منقولاً من أتى بمعنى جاء إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني والفاعل هو الأول إذا عديت بالهمزة تقول آتى المال زيداً وآتي زيد عمراً المال فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأوّل والمال هو المفعول الثاني وعلى ما ذكره الزمخشري يكون العكس فدل ذلك على أنه ليس ما قاله وأيضاً فأتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى وقوله: ولم يقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال أتيت المكان كما تقول جئت المكان وقال الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم   فقالوا الجن قلت عموا صباحاًومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال آتانيه * والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى كان ببيت لحم وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت له وصارت كالمهد وهي الآن تزار بحرم بيت المقدس ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فغمدته فيه وهو الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في ذلك اليوم في كل ماء.﴿ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ ﴾ استندت إلى الجذع إذ لم يكن وراءها امرأة تشددها كعادة النساء عند الوضع ذكروا في هذا الجذع أقوالاً مضطربة والظاهر أنها نخلة عادتها أن تثمر وترطب فلما اشتد بها الأمر هناك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام قالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه.﴿ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا ﴾ وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها السوء في دينها * والنسى الشىء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقه الطمث ونسي فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى مطحون ورعي بمعنى مرعي وأكد ذلك بقوله: منسياً لاختلاف صورتي التركيب والظاهر أن المنادى هو عيسى عليه السلام أي فولدته فأنطقه الله * وناداها أي حالة الوضع وقيل جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقيل وكان يقبل الولد كالقابلة وقرىء: من تحتها فقيل عيسى وقيل جبريل فمن موصولة فعلى هذا يكون المنادى عيسى صلى الله عليه وسلم وأن حرف تفسير.


الصفحة التالية
Icon