﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ ﴾ الظاهر أن قوله: أمتكم خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه إشارة إلى أن ملة الإِسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا أنتم عليها لا تنحرفون عنها ملة واحدة غير مختلفة.﴿ وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا وتقطعوا أمرهم والضمير في تقطعوا عائد على ضمير الخطاب على سبيل الإِلتفات أي وتقطعتم ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات عدل عن الخطاب إلى الغيبة كان هذا الفعل ما صدر من المخاطب لأن في الاخبار عنهم بذلك نعياً عليهم ما أفسدوه وكأنه يخبر غيرهم بما صدر عنهم من قبيح فعلهم ويقول: ألا ترى ما ارتكب هؤلاء في دين الله جعلوا أمر دينهم قطعا كما تتوزع الجماعة الشىء لهذا نصيب ولهذا نصيب تمثيلاً لاختلافهم ثم توعدهم برجوع هذه الفرقة المختلفة إلى جزائه.﴿ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ ذكر حال المحسن وأنه لا يكفر سعيه والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه إذ قيل لله شكور ولا لنفي الجنس فهو أبلغ من قوله: فلا نكفر سعيه والكتابة عبارة عن إثبات عمله الصالح في صحيفة الأعمال ليثاب عليه ولا يضيع.﴿ وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ ﴾ استعير الحرام للممتنع وجوده ومعنى أهلكناها قدرنا إهلاكها على ما هي عليه من الكفر فالإِهلاك هنا إهلاك عن كفر ولا في لا يرجعون زائدة أي لا يرجعون إلى الإِيمان كقوله:﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾[الأعراف: ١٢] والمعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم إهلاكهم لكفرهم رجوع في الدنيا إلى الإِيمان إلى أن تقوم القيامة فحينئذٍ يرجعون ويقولون يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا وغيا بما قرب من مجيء الساعة وهو فتح يأجوج ومأجوج وتقدّم الكلام على يأجوج والضمير في وهم عائد على يأجوج ومأجوج.﴿ مِّن كُلِّ حَدَبٍ ﴾ أي من الأماكن المرتفعة.﴿ يَنسِلُونَ ﴾ يتساقطون ويسرعون.﴿ وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ﴾ أي الوعد بالبعث.﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ الذي لا شك فيه والفاء جواب إذا السابقة وإذا الفجائية وهي ضمير القصة مبتدأ وأبصار مبتدأ وشاخصة خبره والجملة خبر عن ضمير القصة وقال الزمخشري: هي ضمير مبهم يوضحه الابصار ويفسره كما فسروا الذين ظلموا وأسروا " انتهى " لم يذكر غير هذا الوجه وهو قول الفراء.﴿ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا ﴾ أي مما وجدنا الآن وتبينا من الحقائق ثم أضربوا عن قولهم: قد كنا في غفلة وأخبروا بما كانوا قد تعمدوه من الكفر والإِعراض عن الإِيمان فقالوا:﴿ بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ والخطاب بقوله:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ للكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما أهل مكة ومعبوداتهم هي الأصنام * والحصب ما يحصب به أي يرمي به في نار جهنم.﴿ أَنتُمْ لَهَا ﴾ أي النار.﴿ وَارِدُونَ ﴾ الورود هنا ورود دخول.﴿ لَوْ كَانَ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ أي الأصنام التي يعبدونها.﴿ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ﴾ أي ما دخلوها.﴿ وَكُلٌّ فِيهَا ﴾ أي كل من العابدين ومعبوداتهم.﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ﴾ الزفير صوت نفس المغموم يخرج من وسط القلب والظاهر أن الزفير إنما يكون ممن تقوم به الحياة وهم العابدون والمعبودون ممن كان يدعي الإِلهية كفرعون وغلاة الإِسماعيلية الذين كانوا ملوك مصر من بني عبيد الله أول ملوكهم ويجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون لها زفير.﴿ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ ما يسرهم بل يسمعون كلام من يتولى عذابهم من الزبانية كما قال تعالى:﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ﴾[الإسراء: ٩٧].
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ﴾ الآية سبب نزولها قول ابن الزبعري حين سمع أنكم وما تعبدون الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم: بل عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله الآية. و ﴿ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن إما السعادة وإما البشرى بالثواب * والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الإِجرام والشهوة طلب النفس اللذة * والفزع الأكبر عام في كل هول يكون في القيامة.﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ بالسلام عليكم وعن ابن عباس تتلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم:﴿ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ بالكرامة والثواب والنعيم فيه.﴿ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ ﴾ المعنى طياً مثل طي السجل قال الزمخشري: العامل في يوم من قوله: يوم نطوي الفزع " انتهى " هذا ليس بجائز لأن الفزع مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر والعامل فيه اذكر مقدرة التقدير أذكر يوم نطوي وطي مصدر مضاف إلى المفعول أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف * وأول خلق مفعول بدأنا والمعنى نعبد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود كذلك نعيده من العدم إلى الوجود وانتصب.﴿ وَعْداً ﴾ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة الخبرية قبله.﴿ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل * والزبور الظاهر أنه زبور داود وقيل الزبور يعم الكتب المنزلة * والذكر اللوح المحفوظ * والأرض قال ابن عباس: هي أرض الجنة قال تعالى:﴿ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ ﴾[الزمر: ٧٤] نتبوأ والإِشارة في قوله: ان في هذا لبلاغاً إلى المذكور في هذه السورة من الاخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة.﴿ لَبَلاَغاً ﴾ كفاية يبلغ بها إلى الخير وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم. و ﴿ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ قيل خاص بمن آمن به وقيل عام وكونه رحمة للكافرين حيث أخر عقوبتهم ولم يستأصل الكفار بالعذاب، قال: عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة * قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون معناه وما أرسلناك للعالمين إلا رحمة أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض " انتهى " لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا ان كان العامل مفرغاً له نحو ما مررت إلا بزيد * قال الزمخشري: إنما لقصر الحكم على شىء أو لقصر الشىء على حكم كقوله: إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثالان في هذه الآية لأن إنما يوحى إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم * وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية " انتهى " أما ما ذكره في إنما انها لقصر ما ذكر فهو مبني على أن إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر وأن ما مع أن كهي مع كأن ومع لعل فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذا لا تفيده مع أن وأما جعله إنما المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها تدل على القصر فلا نعلم الخلاف إلا في إنما بالكسر وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منه مع ما بعده مصدر فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال: أنه لم يوح إليه شىء إلا التوحيد وذلك لا يصح في الحصر إذ قد أوحي إليه أشياء غير التوحيد.﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ استفهام يتضمن الأمر بإِخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى.﴿ ءَاذَنتُكُمْ ﴾ أعلمتكم ويتضمن معنى التحذير والنذارة.﴿ عَلَىٰ سَوَآءٍ ﴾ لم أحض أحداً دون أحد وهذا الإِنذار إعلام بما يحل بمن تولى من العذاب وغلبة الإِسلام ولكني لا أدري متى يكون ذلك وان نافية وأدري معلقة * والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب.﴿ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ لم تكن فاصلة وكثيراً ما يرجح الحكم في الشىء لكونه فاصلة آخر آية والمعنى: أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شىء وما في قوله: ما توعدون فاعل بقريب تقديره أيقرب ما توعدون أم يبعد.﴿ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ ﴾ أي: لعل تأخير هذا الوعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون أو متاع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو حكمه وأدري هي هنا معلقة أيضاً وجملة الترجي هي مصب الفعل والكوفيون يجرون لعل مجرى هل فكما يقع التعليل عن هل فكذلك عن لعل وقد ذهب إلى ذلك أبو علي الفارسي وإن كان ذلك ظاهراً فيها كقوله تعالى:﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾[الشورى: ١٧] وقيل إلى حين إي إلى يوم القيامة.﴿ قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ ﴾ قرىء: قل على الأمر وقال: على الخبر وهو من باب الإِلتفات انتقل من ضمير المتكلم في أدري إلى ضمير الغائب في قال: ورب منادى مضاف تقديره يا رب وقرىء: احكم على الأمر وقرىء: بإِسكان الياء في ربي أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر وقرىء: احكم فعلاً ماضياً وقرأ الجمهور تصفون بتاء الخطاب وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أبيّ ما يصفون بياء الغيبة.


الصفحة التالية
Icon