﴿ فَتَرَى ٱلْوَدْقَ ﴾ أي المطر لتراكم السحاب بعضه على بعض وانعصاره بذلك.﴿ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار * والخلال قيل مفرد وقيل جمع خلل كجبال وجبل والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين خلقها الله تعالى كما خلق في الأرض جبالاً من حجارة وجبال على معنى الكثرة وقرىء: سنا مقصوراً * برقه منفرداً، وقرىء: سناء ممدوداً برقه بضم الباء وفتح الراء جمع برقة كاللقمة وهي المقدار من البرق.﴿ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ ﴾ الباء للتعدية تقديره يذهب الأبصار.﴿ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ﴾ والظاهر أن من ماء متعلق بخلق ومن لابتداء الغاية أي ابتدأ خلقها من الماء واندرج في كل دابة المميزة وغيره فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذ كان مندرجاً في العام فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون والماشي على بطنه الحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره. و ﴿ عَلَىٰ رِجْلَيْنِ ﴾ الإِنسان والطير. و ﴿ عَلَىٰ أَرْبَعٍ ﴾ لسائر الحيوان الأرضي من البهائم وغيرها فإِن وجد من له أكثر من أربع فقيل: اعتماده إنما هو على الأربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أغرب في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل وقوائم ثم الماشي على رجلين ثم على أربع.﴿ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ﴾ الآية إلى قوله: إلا البلاغ المبين نزلت في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت * ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذم قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائديهم.﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ عن الإِيمان بعد ذلك أي بعد قولهم آمنا.﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإِيمان أو إلى الفريق المولى فيكون ما سبق لهم من الإِيمان ليس إيماناً إنما كان ادعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب وأفرد الضمير في ليحكم وقد تقدم قوله إلى الله ورسوله لأن حكم الرسول عن الله تعالى وقسم تعالى جهات توليهم عن حكومته فقال:﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ أي نفاق وعدم إخلاص.﴿ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ ﴾ أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين.﴿ أَمْ يَخَافُونَ ﴾ أي يعرض لهم الخوف من الحين في حكومته فيكون ذلك ظلماً لهم ثم استدرك ببل أنهم هم الظالمون.﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ لما بلغ المنافقين ما أنزل الله فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي ليخرجن عن ديارهم ونسائهم وأموالهم أو لئن أمرتهم بالجهاد ليخرجن * وتقدم الكلام في مهد أيمانهم في الانعام ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً * وطاعة مبتدأ ومعروفة صفة والخبر محذوف أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا والمطلوب طاعة معروفة.﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ ﴾ أي على الرسول.﴿ مَا حُمِّلَ ﴾ وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة واعمال الجهاد في إنذارهم.﴿ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ وهو السمع والطاعة واتباع الحق ثم علق هدايتهم على طاعته فلا تقع إلا بطاعته.﴿ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ﴾ تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة * والخطاب في منكم للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ومن للبيان أي الذين هم أنتم.﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ﴾ أن ينصر الإِسلام على الكافرين ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء.﴿ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة * واللام في ليستخلفنهم جواب قسم محذوف أي وأقسم ليستخلفنهم أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاب به القسم وعلى تقدير حذف القسم يكون معمول وعد محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم ودل عليه جواب القسم المحذوف.﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ﴾ أي يثبته ويوطده بإِظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله. و ﴿ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ ﴾ لهم صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى بما أظهره الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم صلى الله عليه وسلم إلى زمان هذه الملة المحمدية.﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ قال صاحب النظم: لا يحتمل أن يكون ومأواهم متصلاً بقوله: لا تحسبن ذلك نهي وهذا إيجاب فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون.﴿ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ ﴾ " انتهى " واستبعد العطف من حيث أن لا تحسبن نهي ومأواهم جملة خبرية فلم تناسب عنده أن تعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم ولما أحس الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضها على بعض وان لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه، قال الزمخشري: يكون الأصل لا تحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشىء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث " انتهى " قد رددنا هذا التخريج في آخر آل عمران في قوله: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا في قراءة من قرأ بياء الغيبة وجعل الفاعل الذين يفرحون وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدّر لا تحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ﴾ الآية روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإِذن ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجداً لله * وليستأذنكم أمر والظاهر حمله على الوجوب وقيل على الندب والظاهر عموم الذين ملكت أيمانكم في العبيد والإِماء * والظاهر من قوله: ثلاث مرات ثلاث استئذانات ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:" الاستئذان ثلاث ".﴿ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ ﴾ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم.﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ ﴾ لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت.﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ﴾ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والإِلتحاف بثياب النوم.﴿ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ﴾ سمي كل واحدة منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين وقرىء: ثلاث بالرفع أي تلك وقرىء: بالنصب وقرأ الأعمش عورات بفتح الواو وهي لغة تميم وهذيل بن مدركة.﴿ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يمضون ويجيئون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم طوافون أي المماليك والصغار طوافون عليكم يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات.﴿ كَذَلِكَ ﴾ الإِشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ * ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال والأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى القواعد من النساء اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال: والقواعد وهو جمع قاعد من صفات الإِناث وقال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض وقال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود.﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ ﴾ عن ابن عباس: لما نزلت لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية، قيل: وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله.﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ قيل ألزمني ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها وقيل ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر ما قال تعالى ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ومفاتحه بيده.﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قرن الله تعالى الصديق آكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات * وانتصب جميعاً وأشتاتاً على الحال أي مجتمعين أو متفرقين.﴿ فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ قال ابن عباس: المساجد فسلموا على من فيها فإِن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله وقيل يقول السلام عليكم يعني الملائكة ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقيل: إذا دخلتم بيوتاً من هذه البيوت لتأكلوا فيها فابدؤا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة.﴿ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه * وانتصب تحية لقوله: فسلموا لأن معناه فحيوا كقولك: قعدت جلوساً.﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، لما افتتح السورة بقوله: سورة أنزلناها وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم اختتمها بما يجب له صلى الله عليه وسلم على أمته من التابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإِسلام ومن طلب استئذانه أن عرض لأحد منهم عارض ومن توقيره في دعائهم إياه والمؤمنون مبتدأ والموصول خبره وهو قوله: الذين آمنوا، ومعنى على أمرها مع نحو مقاتلة عدو وتشاور في أمر مهم أو نضام لإِرهاب مخالف يحتاج فيه إلى اجتماع ذوي الآراء فإذا ذاك لا يحل ذهاب أحد ممن يحتاج إليه إلا بعد استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك غيا الذهاب بقوله حتى يستأذنوه ثم أكد الاستئذان بقوله: إن الذين يستأذنوك بلفظ ان وبالإِشارة في قوله أولئك وبالخبر بعده * ثم أمره تعالى بأن يأذن لمن يستأذن لبعض شأنه وأمره باستغفار الله له على طاعته باستئذانه.﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ ﴾ خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أمروا بتوقير الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله يا نبي الله ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول يا محمد وفي قوله: كدعاء بعضكم بعضاً إشارة إلى جواز ذلك مع بعضهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه صلى الله عليه وسلم إلا من دعاه لا من دعا غيره وكانوا يقولون يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك ومعنى:﴿ يَتَسَلَّلُونَ ﴾ ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفيه. و ﴿ لِوَاذاً ﴾ يلوذ بعضهم ببعض هذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو إذا صحت الواو فيه وان كان قبلها كسرة لصحتها في الفعل في قولهم لاوذ بخلاف قام قياماً فإِنها اعتلت في الفعل فاعتلت في مصدره وقيل في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة وخالف يتعدى بنفسه يقول: خالفت أمر زيد وبإِلى تقول خالفت إلى كذا فقوله: عن أمر ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن والضمير في أمره عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر الأمر الوجوب ولذلك جعل في المخالفة إصابة الفتنة أو إصابة العذاب.﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد وأتى بالمضارع وهو يعلم كناية عن المجازاة والظاهر أن الخطاب في أنتم للمنافقين ولغيرهم وما عامة في الأعمال التي يعملها المكلفون.﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ ويوم معطوف على ما أي علم الذين أنتم عليه.﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ فتعلق علمه بالأمرين حالاً وهو ما أنتم عليه ومآلاً وهو يوم يرجعون إليه والتفت من ضمير الخطاب في أنتم إلى ضمير الغيبة في يرجعون.


الصفحة التالية
Icon