﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ أي أرسلنا وأرجو أي خافوا جزاء اليوم الآخر من إنتقام الله منكم ولا تعثوا تقدم فأخذتهم الرجفة تقدم الكلام عليه.﴿ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾ فالحاصب لقوم لوط وهي ريح عاصف فيها حصباء والصيحة لمدين وثمود والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه.﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ﴾ حيوان معروف ووزنه فعللوت ويؤنث ويذكر شبه الله تعالى الكفار في عبادتهم وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد وأمرها كله ضعيف متى مسه أدنى هامة أذهبته فكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد قال الزمخشري: والغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم وتولوه من دون الله تعالى بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة وهو نسج العنكبوت ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله: ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ ﴾ " انتهى " والنص يظهر في تشبيه المتخذ من دون الله أولياء بالعنكبوت المتخذة ولياً بيتاً فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله كما أن العنكبوت لا اعتماد لها على بيتها في استظلال وسكنى بل لو دخلت فيه خرقته ثم بين حال بيتها وأنه في غاية الوهن بحيث لا ينتفع به كما أن تلك الأصنام لا تنفع فلا تحدث شيئاً البتة والإِشارة بقوله: وتلك إلى الأمثال وما تقدم في السورة من الأمثال.﴿ وَمَا يَعْقِلُهَآ ﴾ أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا العالمون وكان جهلة قريش يقولون: ان رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك وما علموا أن الأمثال تبرز المعاني الخفية في الصور الجلية.﴿ وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ وأهل الكتاب اليهود والنصارى والتي هي أحسن الملاطفة في الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ من لم يؤد جزية ونصب الحرب وصرح بأن لله تعالى ولداً أو شريكاً أو يده مغلولة والآية منسوخة في مهادن من لم يحارب.﴿ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا ﴾ هذا من المجادلة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:" كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ".﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي مثل إنزال تلك الكتب السابقة.﴿ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي القرآن.﴿ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه.﴿ وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ أي من أهل مكة من يؤمن به أي بالقرآن إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾ مع ظهورها وزوال الشبه عنها.﴿ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ ﴾ أي من بني إسرائيل وغيرهم.﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل نزوله عليك.﴿ مِن كِتَابٍ ﴾ أي كتاباً ومن زائدة لأنها في متعلق النفي.﴿ وَلاَ تَخُطُّهُ ﴾ أي لا تقرأ ولا تكتب بيمينك وهي الجارحة التي يكتب بها وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة.﴿ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴾ أي لو كان يقرأ كتباً قبل نزول القرآن عليه أو يكتب لحصلت الريبة للمبطلين إذ كانوا يقولون حصل ذلك الذي يتلوه مما قر أقبل وخطه واستحفظه فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده والمبطلون أهل الكتاب.﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ﴾ أي قالت قريش وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشاً مثل هذا الاقتراح ويقولون لهم ألا يأتيكم بآية مثل آية موسى من العصا وغيرها.﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾ الظاهر أنه رد على الذين قالوا لولا أنزل أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل.﴿ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ﴾ روي" أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت قل كفى بالله أي قد بلغت وأنذرت وانكم جحدتم وكذبتم وهو العالم ما في السماوات والأرض فيعلم أمري وأمركم ".﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ قال ابن عباس بغير الله * وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليهم ليؤمنهم وهذا لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل ولا يجوز أن يقول زيداً لأضربن فلا يجوز أن تقول زيداً لاضربنه لما ذكرنا.﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ﴾ أي كفار قريش في قولهم: إئتنا بما تعدنا وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول عليه الصلاة والسلام والأجل المسمى ما سماه الله تعالى واثبته في اللوح المحفوظ لعذابهم وأوجبت الحكمة تأخيره ثم كرر فعلهم وقبحه وأخبر أن وراءهم جهنم تحيط بهم وانتصب يوم يغشاهم بمحيط.﴿ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾ أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله: ﴿ يٰعِبَادِيَ ﴾ نزلت فيمن كان مقيماً بمكة أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة أي جانبوا أهل الشرك واطلبوا أهل الإِيمان ولما أخبر تعالى بسعة أرضه وكان ذلك إشارة إلى الهجرة وأمر بعبادته فكان قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإِسلام لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه فربما أدى ذلك إلى هلاكه أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه وتموت في أي مكان حل وأن رجوع الجميع إلى جزائه يوم القيامة وقرىء:﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ﴾ من المباءة وهي المرجع والمعنى لنجعلن لهم مكان مباءة أي مرجعاً يأوون إليه.﴿ غُرَفَاً ﴾ أي علالي وقرىء: لنثوينهم من ثوى أي أقام وهو فعل لازم فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد وقرأ مشدداً عدي بالتضعيف فانتصب غرفاً اما على اسقاط حرف الجر أي في غرف ثم اتسع فحذف واما على تضمين الفعل معنى التبوئة فتعدى إلى اثنين أو شبه الظرف الكائن المختص بالمبهم فوصل إليه الفعل.﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ أي على مفارقة أوطانهم والهجرة.﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ هذان جماع الخير كله الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر فقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروِّي في رزقها ولا تحمل رزقها من الحمل أي لا تعقل ولا تنظر في ادخار ثم قال الله يرزقها أي على ضعفها وإياكم أي على قدرتكم على الاكتساب وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ومع ذلك فرازقكم هو الله تعالى.﴿ وَمَا هَـٰذِهِ ﴾ الإِشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها والحيوان والحياة بمعنى واحد وجعلت الدار الآخرة حيواناً على المبالغة بالوصف بالحياة ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله تعالى إذ سئلوا من خلق العالم ومن نزل من السماء ماء ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله تعالى ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه.﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ جواب للما أي فاجأ التنجية إشراكهم بالله تعالى أي لم يتأخر عنها ولا وقتاً والظاهر في ليكفروا أنها لام كي وعطف عليه وليتمتعوا والمعنى عادوا إلى شركهم ليكفروا أي الحامل لهم على الشرك كفرهم بما أعطاهم الله تعالى وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا بخلاف المؤمنين فلم يقابلوها إلا بالشكر بالله تعالى على ذلك ثم ذكرهم تعالى بنعمه حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها لا يغزوهم أحد ولا يسلب منهم مع كونهم قليلي العدد قارين في مكان غير ذي زرع. وهذه من أعظم النعم التي كفروا بها وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى.﴿ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ ﴾ أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمتعلق ليتناول المجاهدة في النفس قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله لنهدينهم هداية إلى سبيل الخير كقوله:﴿ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾[محمد: ١٧] والذين مبتدأ خبره القسم المحذوف وجوابه وهو لنهدينهم.