﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ استثناء مفرغ فالمستثنى منه محذوف تقديره ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم. قال ابن عطية: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله حتى إذا فرغ إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل عليه السلام وبالأمر يأمر الله تعالى به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة.﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ ﴾ الآية خطاب للكفار وسؤال لهم عمن يرزقهم وأمره تعالى أن يجيب عاملاً بقوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ إذا قد يصدر منهم العناد فلا يقولون الله ولا يمكن أن يقولوا آلهتهم. قوله: وأنا الضمير عائد للمؤمنين أو إياكم ضمير الكفار لعلى هدى راجع للمؤمنين أو في ضلال راجع للكفار وأورد ذلك باوالتي تقتضي الترديد بين شيئين وإن كان في العقل التمييز بين الشيئين ومعلوم أن المؤمن لا يتساوى مع الكافر ومما يشبه هذا قول الشاعر: فأين ما وأيك كان شراً فسيق إلى المقادة في هو ان فردد بينه وبين مخاطبه في الشر ومعلوم عنده أن صاحبه هو الشر.﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا ﴾ أطلق على عمل المؤمن إجراماً باعتقاد الكافر فيه ذلك.﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي يوم القيامة.﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ ﴾ أي يحكم بالحق بالعدل فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار والفتاح والعليم صيغتا مبالغة وهذا فيه تهديد وتوبيخ.﴿ إِلاَّ كَآفَّةً ﴾ قيل هو حال من الضمير في أرسلناك والهاء للمبالغة كقولهم علامة للرجل كثير العلم والمعنى إلا جامعاً للناس في الإِبلاغ وقيل فيه تقديم وتأخير والتقدير إلا للناس كافة ومعناها جميعاً فيكون حالاً من الناس ومعناها التوكيد كأنه قيل للناس كلهم قال الزمخشري: إلا كافة للناس أي إلا إرساله عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال: ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإِحاطة بمنزلة تقدم المجرور على الجر ولم ترني من مرتكب هذا الخطأ ثم لا ينتفع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فلا بد له من ارتكاب الخطأين " انتهى ". أما قوله كافة بمعنى عامة والمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما فعلوا ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفة لموصوف محذوف. وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالاً إلخ... فذلك مختلف فيه ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز وهو الصحيح ومن أمثلة أبي علي زيد خير ما يكون خير منك التقدير زيد خير منك خير ما يكون فجعل خير ما يكون حالاً من الكاف في منك وقدمها عليه وقال الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديدأي فمطلها عليه كهلاً شديد. وقال آخر: تسليت طراً عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عنديأي تسليت عنكم طراً أي جميعاً وقد جاء تقدم الحال على صاحبه المجرور على ما يتعلق به ومن ذلك قول الشاعر: مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق فيما إليك سبيلوقال آخر: غافلاً تعرض المنية للمر فيدعي ولات حين أباءأي شغفت بك مشغوفة وتعرض المنية للمرء غافلاً وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز. وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ إلخ... تشنيع لأن قائل ذلك لا يحتاج أن يتأول اللام بمعنى إلى وأرسل تتعدى باللام كقوله:﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾[النساء: ٧٩] ولو تأول اللام بمعنى إلى لم يبن ذلك خطأ لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى أو إلى جاءت بمعنى اللام وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور والظاهر أن الميعاد إسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر أي قل لكم وقوع يوم ونحوه.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم مشركوا قريش ومن جرى مجراهم والمشهور أن الذي بين يديه التوراة والإِنجيل وما تقدم من الكتب الإِلهية.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أخبر عن حالهم في صيغة منها وترى في معنى رأيت لأعمالها في الظرف الماضي ومفعول ترى محذوف أي حال الظالمين إذ هم موقوفون وجواب لو محذوف أي لرأيت لهم حالة منكرة من ذلهم وتحاورهم وتجادلهم حيث لا ينفعهم شىء من ذلك ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الاتباع وهم الذين استضعفوا قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد الأئمة عليهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر فقال لهم رؤساؤهم: أنحن صددناكم فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكاراً لأن يكونوا هم الذين صدورهم من قبل أنفسكم وباختياركم فكأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن صممتم على الدخول في الإِيمان بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى فكنتم مجرمين كافرين باختياركم لا بقولنا وتسويلنا ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم وأثبتوا بقولهم: بل كنتم مجرمين ان كفرهم هو من قبل أنفسهم قابلوا إضراباً بإِضراب فقال: الاتباع بل مكر الليل والنهار أي ما كان إجرامنا من جهتنا بل مكركم لنا دائماً بمخادعتكم لنا ليلاً ونهاراً إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم مطيعون لكم باستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذاً لأنداد وأضيف المكر إلى الليل والنهار واتسع في الظرفين فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة وفي موضع رفع على الإِسناد المجازى كما قالوا: ليل نائم والأولى أن يرتفع مكر على الفاعلية أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار إذ معمول لمكر.﴿ وَأَسَرُّواْ ﴾ الضمير عائد للجميع وهم الظالمون الموقوفون وأسروا تقدم الكلام عليه والذين كفروا هم الذين سبقت منهم المحاورة وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون في فيه.﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ ﴾ إستفهام معناه النفي ولذلك دخلت إلا بعد النفي.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما مني به من قومه قريش من الكافر والافتخار بالأموال والأولاد وان ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم فلا يهمك أمرهم ومن نذير عام أن ينذرهم بعذاب الله تعالى إن لم يوحدوه. و ﴿ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ جملة حالية ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل لما شغلوا به من زخرف الدنيا بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا. و ﴿ بِمَآ ﴾ معلق بكافرين. و ﴿ بِهِ ﴾ متعلق بأرسلتم وما عامة فيما جاءت به النذر من طلب الإِيمان بالله تعالى وأفرده بالعبادة والاخبار بأنهم رسله إليهم والبعث والجزاء على الأعمال والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المترفين وقيل عائد على قريش ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله:﴿ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ ﴾[سبأ: ٣٧] والظاهر أن هذا الموصول أريد به الأموال والأولاد.