﴿ هَـٰذَا ذِكْرٌ ﴾ الآية، لما كان ما ذكر نوعاً من أنواع التنزيل قال: هذا ذكر كأنه فصل بين ما قبله وما بعده ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة وأعقبه بذكر أهل النار قال: هذا وإن للطاغين وقال الزمخشري: جنات معرفة لقوله:﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾[مريم: ٦١] وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال " انتهى ". ولا يتعين أن يكون جنات عدن التي معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله: جنات عدن لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ولا يتعين ما ذكره إذ يجوز أن يكون التي بدلاً من جنات عدن ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء فتلي العوامل فلا يلزم أن تكون صفة وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز لأن النحويين في ذلك على مذهبين أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة وهو مذهب البصريين والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف وقد أجاز ذلك في قوله تعالى:﴿ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾[البقرة: ١٢٥] فاعربه عطف بيان تابعاً لنكرة وهو آياته بينات ومقام إبراهيم معرفة وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران وأما قوله: وهي مفتحة ضمير الجنات فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولاً لم يسم فاعله مرفوعاً بمفتحة وجاء أبو علي فقال: إذا كان ذلك لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن من الحال أن أعرب مفتحة حال أو من النعت ان اعرب نعتاً لجنات عدن فقال في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى يرتبط المال بصاحبها أو النعت بمنعوته والأبواب بذل وقال من أعرب الأبواب مفعولاً لا لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها والزم أبو علي أن البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير إما ملفوظاً به أو مقدراً وإذا كان الكلام عليه محتاجاً إلى تقدير واحد كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين وأما الكوفيون فالرابط عندهم هوال لقيامه مقام الضمير فكأنه قال مفتحة لهم أبوابها وأما قوله وهو بدل الاشتمال فإِن عنى بقوله: وهو قوله اليد والرجل فهو وهم وإنما هو بدل بعض من كل وإن عنى الأبواب فقد يصح لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات وأما تشبيهه ما قدره من قوله: مفتحة هي الأبوب بقولهم: ضرب زيد اليد والرجل فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن كما أن إليه والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد أبو إسحاق وتبعه ابن عطية مفتحة نعت لجنات عدن وقال الحوفي: مفتحة حال والعامل فيها محذوف بدل عليه المعنى تقديره يدخلونها.﴿ أَتْرَابٌ ﴾ أي أمثال على سن واحد هذا مبتدأ وحميم خبره وفليذوقوه جملة اعتراض وقرىء: وغساق بتخفيف السين وتشديدها فإِن كانت صفة فتكون مما حذف موصوفها وإن كانت إسماً ففعال قليل في الأسماء كالفناد وهو ذكر اليوم وقرىء وآخر على الأفراد وآخر على الجمع. و ﴿ مِن شَكْلِهِ ﴾ أي من شكل العذاب.﴿ أَزْوَاجٌ ﴾ أي أصناف والظاهر أن قوله هذا فوج مقتحم معكم من قول رؤسائهم بعضهم لبعض والفوج الجمع الكثير.﴿ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ﴾ أي في النار وهم الأتباع ثم دعوا عليهم بقولهم لا مرحباً بهم لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب ولم يكن هو السالم من العذاب واتباعه من العذاب ومرحباً معناه أتيت رحباً وسعة لا ضيقاً.﴿ قَالُواْ ﴾ أي الفوج.﴿ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ ﴾ ردّ على الرؤساء فدعوا عليهم به ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلي النار إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر فكأنكم قدّمتم لنا العذاب والصلي.﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً ﴾ الآية، روي أن القائلين من كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أبو جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب والذين لم يروهم عمار وصهيب وسلمان ومن جرى مجراهم وقرىء اتخذناهم بهمزة الاستفهام لتقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف أي اتخذناهم سخرياً وقرىء: بوصل الهمزة على أنه خبر ثم اضربوا عن هذا واستفهموا فقالوا بل أزاغت عنهم أبصارنا وهم فيها فنفوا أولاً ما يدل على كونهم ليسوا معهم ثم جوزوا أن يكونوا معهم ولكن أبصارهم لم ترهم.﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ أي التفاوض الذي حكيناه عنهم.﴿ لَحَقٌّ ﴾ أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم وتخاصم بدل من لحق.﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ ﴾ أي قل يا محمد إنما أنا منذر المشركين بعذاب الله وأنه لا إله إلا الله لا ند له ولا شريك له وهو﴿ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾ لكل شىء وأنه مالك العالم علوه وسفله.﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ الذي لا يغالب.﴿ ٱلْغَفَّارُ ﴾ لمن تاب وآمن به واتبع دينه.﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولات الاتباع مع السادات لأنه من أحوال البعث وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب وهم يعرضون عن ذلك.﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول ما كان لي من علم باختصام الملأ الأعلى واختصامهم هو في آدم وذريته في جعلهم في الأرض ثم قال:﴿ إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ إلخ فنفى أن يكون علم ذلك في غير جهة الوحي الإِلهي.﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ تقدم الكلام عليه والبشر هو آدم عليه السلام وذكر هنا أنه خلقه من طين وفي آل عمران من تراب وفي الحجر من صلصال وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة ذكر المادة البعيدة وهو التراب ثم ما يليه وهو الطين ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون ثم المادة الأخيرة تلي الحمأ وهو الصلصال والاستثناء في جميع هذه الأيات يدل على أنه لم يسجد فتارة أكد بالنفي المحض وتارة ذكر إبايته عن السجود وهي الإِنفة من ذلك وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار.﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ ﴾ أي ممن علوت وفقت فأجاب بأنه من العالين حيث قال: أنا خير منه قال ابن عطية: وذكر كثير من النحويين أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك أزيد قام أم عمرو وقولك أقام زيد أم عمرو فإِذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست معادلة ومعنى الآية أحدث لك الاستكبار الآن أم كنت قديماً ممن لا يليق أن يكلف مثل هذا لعلو مكانك وهذا على جهة التوبيخ " انتهى ". هذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح قال سيبويه: وتقول أضربت زيداً أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيها كان ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت أي ذلك كان " انتهى " فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين.﴿ قَالَ فَٱلْحَقُّ ﴾ قرىء بالنصب وبالرفع وهو قسم جوابه لأملأن.﴿ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ ﴾ جملة اعتراض بين القسم وجوابه والمعنى وأقول الحق وإذا رفعنا فالحق مبتدأ خبره محذوف تقديره فالحق يميني وإذا نصبنا فعلى إسقاط حرف الجر تقديره أقسم بالحق قال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء وخبره في قوله: لأملأن لأن المعنى ان املأ " انتهى ". هذا ليس بشىء لأن لأملأن جواب قسم ويجب أن يكون جملة فلا يتقدر بمفرد وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري والفعل حتى ينحل إليهما ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنه خبر عنه ومنهم بدل من في قوله من تبعك وأجمعين تأكيد للمتبع عليه أي على القرآن.﴿ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله.﴿ إِنْ هُوَ ﴾ أي القرآن إلا ذكر أي من الله تعالى للعالين الثقلين الإِنس والجن.﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ ﴾ أي عاقبة خبره وما نرتب عليه لمن آمن به ومن أعرض عنه.﴿ بَعْدَ حِينِ ﴾ قال ابن عباس هو يوم القيامة.