﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال أفلم يسيروا إلخ فتضمن وعيداً وتهديداً وتقريعاً لقريش فاتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر فذكر أنه نزل كتاباً مفصلاً آياته بشيراً لمن اتبعه نذيراً لمن أعرض عنه وأن أكثر قريش أعرضوا عنه ثم ذكر قدرة الإِلٰه تعالى على إيجاد العالم العلوي والسفلي ثم قال: فإِن أعرضوا وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن تنزيل مبتدأ خبره كتاب فصلت أي بينت وفسرت معانيه فصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ونهيه ووعده ووعيده وانتصب بشيراً ونذيراً على النعت لقرآناً عربياً.﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ﴾ أي أكثر أولئك القوم أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا.﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ لإِعراضهم مما احتوى عليه من الحجج والبراهين روي" أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه وليقبح عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما جاء به فلما تكلم عتبة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حم ومرّ من صدرها حتى انتهى إلى قوله: فإِن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة فأرعد الشيخ ووقف شعره وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يمسك وقال حين فارقه والله لقد سمعت شيئاً ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي ".﴿ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ ﴾ تقدم الكلام عليه قال الزمخشري: فإِن قلت هلا قيل على قلوبنا أكنة كما قيل وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد قلت هو على نمط واحد لأنه لا فرق في المعنى بين قولك قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾[الكهف: ٥٧] ولو قيل انا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني " انتهى " تقول ان في أبلغ في هذا الموضع من على لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف فلا يمكن أن يصل إليها شىء كما تقول المال في الكيس بخلاف قولك على المال كيس فإِنه لا يدل على الحصر وعدم الحصول دلالة الوعاء واما في قوله: انا جعلنا فهو من اخبار الله تعالى لا يحتاج إلى مبالغة بخلاف قولهم وقول الزمخشري وترى المطابيع منهم يعني من العرب وشعرائهم ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه قالوا وأحسنه ما جاء من غير تكلف. والحجاب الستر المانع من الإِجابة وهو خلاف في الدين لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام وروي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.﴿ فَٱعْمَلْ ﴾ قال مقاتل: اعمل لإِلٰهك الذي أرسلك فإِننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها وضمن استقيموا معنى التوجه فلذلك تعدى بإِلى أي وجهوا استقامتكم ولما كان العقل ناطقاً بأن السعادة مربوطة بأمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه ذكر أن الويل والثبور والخزي للمشركين الذين لم يعظموا الله بتوحيده ونفي الشريك عنه ولم يشفقوا على خلقه بإِيصال الخير إليهم وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قال السدي: نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون والممنون المنقوص قاله ابن عباس: قل أئنكم تقدم الكلام عليه. ومعنى في يومين أي في مقدار يومين وبارك فيها أكثر من خيرها، وقدّر فيها أقواتها أي أرزاق ساكنيها ومعائشهم في أربعة أيام أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقرىء: سواء بالجر صفة لأربعة وبالنصب على الحال وبالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره هي سواء.﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي قصد إليها والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً وفي أول الكتاب الذي تزعم اليهود أنه التوراة أن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله تعالى في ذلك سخونة فارتفع زبد ودخان أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا وخلق الله منه السماوات وفيه أيضاً أنه خلق السماوات من أجزاء مظلمة " انتهى ".﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ﴾ هذا القول مجاز وهو كناية عن انفعال هذه الأجرام العظيمة لما يريد الله تعالى منها ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني   قال الوتد سل من يدقنيقال ابن عطية: وقوله: قالتا أراد الفرقتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضاً وهذا نحو قول الشاعر: ألم يحزنك ان حبال قومي   وقومك قد تباينتا انقطاعاجعلها الفرقين وعبر عنها بتباينتا " انتهى ". وهذا ليس كما ذكر لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فحسن التعبير عنها بالتثنية والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلى قومي قومك فلذلك ثنى في قوله قد تباينتا وأنث على معنى الحبل لأنه لا يريد الحبل حقيقة إنما عني به الذمة والمودة التي كانت بين قوميهما.﴿ فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ﴾ أي صنعهن وأوجدهن قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما   داود أو صنع السوابغ تبعوعلى هذا انتصب سبع على الحال وحفصاً أي حفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب. ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ ﴾ التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله: أئنكم لتكفرون إلى ضمير الغيبة إعراضاً من خطابهم إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة.﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ ﴾ أي أعلمتكم.﴿ صَاعِقَةً ﴾ أي حلول صاعقة قالوا أو ضمير غيبة انتقل منه إلى ضمير الخطاب في قوله: انا وما في قوله بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليه قوله به وبما متعلق بكافرون قال الزمخشري: ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء ربها إرسال الرسل لأنزل ملائكة " انتهى ". تتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب نحو قوله تعالى:﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾[الأنعام: ٣٥] أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه وكذلك لو نشاء لجعلناه حطاماً لو نشاء جعلناه أجاجا ولو شاء ربك ما فعلوه ولو شاء الله ما عبدنا من دونه شىءفلو شاء ربي كنت قيس بن خالد   ولو شاء ربي كنت عمرو ابن مرثدوقال الراجز واللذ لو شاء لكنت صخراً أو جبلاً أشم مشمخراً. فعلى هذا الذي تقرر لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري وإنما التقدير لو شاء ربنا إنزال الملائكة بالرسالة منه إلى الإِنس لأنزلهم بها إليهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإِنزال الملائكة وهو لم يشأ فكيف يشاء ذلك في البشر.﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ أي بينا لهم وأرشدناهم.﴿ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد والهون الهوان وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه ثم ذكر قريشاً بنجاة من آمن واتقى قيل وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب لهود وصالح مائة وعشرة أنفس.﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾ يوم منصوب باذكر منهم يوزعون تقدم الكلام عليه وحتى غاية ليحشر وأعداء الله هم الكفار من الأولين والآخرين وما بعد إذا زائدة للتأكيد والظاهر أن الجلود هي المعروفة وقيل كني به عن الفروج وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها ولما صدر منها ما صدر من العقلاء وهي الشهادة خاطبوها بقولهم لم شهدتم مخاطبة العقلاء والظاهر أن قوله: وما كنتم تستترون من كلام الله تعالى توبيخاً لهم.﴿ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ ﴾ الخفيات من أعمالكم.﴿ وَذَلِكُمْ ﴾ إشارة إلى ظنهم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من أعمالهم وهو مبتدأ خبره أرادكم وظنكم بدل من ذلكم وقال الزمخشري: وظنكم وأرادكم خبر أن وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر " انتهى ". ولا يصح أن يكون ظنكم الذي ظننتم بربكم خبراً لأن قوله: وذلكم إشارة إلى ظنهم فيصير التقدير وظنهم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وصار نظير ما منعه النحاة من قولك سيد الجارية مالكها.﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ﴾ أي يتعذروا فما هم من المعذورين ولما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال:﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقرناء جمع قرين أي قرناء سوء من غواة الجن والإِنس.﴿ فَزَيَّنُواْ لَهُم ﴾ أي حسنوا وقرروا في أنفسهم.﴿ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال ابن عباس من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر ولذات الدنيا.﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي كلمة العذاب وهو القضاء المحتم أنهم معذبون.﴿ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ أي في جملة أمم.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ ﴾ أي لا تصغوا لهذا القرآن وألغوا فيه قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر فخشي الكفار استمالته القلوب بذلك فقالوا حتى قرأ محمد فلنغلط نحن بالمكاء والصفير والصياح وشاد الشعر والارجاز حتى يخفى صوته وهذا الفعل هو اللغو.﴿ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ بتشويشكم عليه على قراءته فلا يصغى إليها.﴿ ذَلِكَ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأحرف ذلك وجزاء مبتدأ والنار خبره.﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾ أي موضع البقاء الدائم الذي لا ينقطع والنار هي دار الخلد فكيف قيل فيها ثم محذوف تقديره في عذابها.


الصفحة التالية
Icon