﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾ هذه السورة مكية.﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ ﴾ أي صيرناه وهو جواب القسم وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد والكتاب القرآن وأم الكتاب اللوح المحفوظ وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع بكونه لديه عليا على جميع الكتب وعالياً عن وجوده الفساد حكيماً أي حاكماً على سائر الكتب. وقرىء: اما بكسر الهمزة.﴿ أَفَنَضْرِبُ ﴾ قال ابن عباس المعنى أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وعفوا عن إجرامكم.﴿ أَن كُنتُمْ ﴾ لما ذكر خطاباً لقريش فنضرب عنكم الذكر وكان هذا الإِنكار دليلاً على تكذيبهم للرسول عليه السلام وإنكار الماء جاء به آنسه الله تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة في استهزائهم بالرسل وأنه تعالى أهلك من كان أشد منهم بطشاً أي أكثر عدداً وعدداً وجلداً.﴿ وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة.﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ﴾ إحتجاج على قريش بما يوجب التناقض وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى ثم هم يتخذون أصناماً آلهة من دون الله تعالى يعبدونها والظاهر أن خلقهن العزيز العليم هو نفس المحكي من كلامهم ولا بدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله أن لا يقولوا في سؤال آخر خلقهن العزيز العليم. و ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ﴾ هو من كلام الله تعالى خطاباً لهم بتذكير نعمه السابقة وكرر الفعل في الجواب في قولهم خلقهن العزيز العليم مبالغة في التوكيد وفي غير ما سؤال اقتصروا على ذكر إسم الله تعالى إذ هو العلم الجامع للصفات العلا وجاء الجواب مطابقاً للسؤال من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ كان بالاسم مبتدأ ولم يكن بالفعل.﴿ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي إلى مقاصدكم في السفر.﴿ فَأَنشَرْنَا ﴾ أي أحيينا.﴿ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ ذكر على معنى القطر وبلدة إسم جنس.﴿ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ﴾ تقدم قوله ما تركبون وهي موصولة ويراعى فيها اللفظ والمعنى فمراعاة المعنى في قوله ظهور حيث جمع ومراعاة اللفظ حيث أضاف الظهور إلى ضمير المفرد وكذا فيما بعد ذلك في قوله عليه وفي الإِشارة في قوله: هذا وجاء في الحديث" أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فإِذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا إلى قوله: لمنقلبون وكبر ثلاثاً وهل ثلاثاً "والمقرن الغالب الضابط المطيق للشىء يقال أقرن الشىء إذا أطاقه والقرن الحبل الذي يقرن به.﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ ﴾ أي كفار قريش والعرب له أي لله تعالى.﴿ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ أي ممن هم عبيده.﴿ جُزْءًا ﴾ أي نصيباً وهو قولهم الملائكة بنات الله.﴿ أَمِ ٱتَّخَذَ ﴾ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه.﴿ وَأَصْفَاكُم ﴾ جعل لكم صفوة ما هو محبوب لكم وذلك هو وقوله مما يخلق تنبيه على استحالة الولد ذكراً كان أو أنثى.﴿ وَإِذَا بُشِّرَ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ ﴾ أي ينتقل في عمره حالاً فحالاً في الحلية وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإِناث دون الرجال لتزينهن بذلك لأوزاجهن وهو أن خاصم لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل أظهر بهذا تحقيرهن وشغوف البنين عليهن وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كما للمرأة وأن يكون مخشوشنا.﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً ﴾ لم يكفهم ان جعلوا لله تعالى ولداً حتى جعلوه أنثى وجعلوهم من الملائكة وهذا من جهلهم بالله تعالى وصفاته واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة وقرىء: عند الرحمٰن ظرفاً وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم والمعنى إظهار فساد عقولهم وان دعاويهم مجردة من الحجة.﴿ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ تقدم الكلام عليه ولما نفى عنهم علم ترك عقابهم على عبادة غير الله أي ليس يدل على ذلك عقل نفي أيضاً أن يدل على ذلك سمع فقال:﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً ﴾ من قبل نزول القرآن أو من قبل إنذار الرسول عليه السلام يدل على تجويز عبادتهم غير الله وأنه لا يترتب على ذلك عقاب إذ هو وفق المشيئة.﴿ فَهُم بِهِ ﴾ أي بذلك الكتاب.﴿ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ في عبادة غير الله وانتفاء الإِثم على ذلك ثم أخبر تعالى أنهم مقلدون في ذلك لآبائهم ولا دليل لهم من عقل ولا نقل ومعنى على أمة أي على طريقة ودين وعادة فقد سلكنا مسلكهم ونحن مهتدون في اتباع آثارهم والظاهر أن الضمير في قال أو في قل للرسول عليه السلام أي قل يا محمد لقومك أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم وهذا تجهيل لهم حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل.﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ ﴾ أي أنت والرسل قبلك غلب الخطاب على العتبة.﴿ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ بالقحط والقتل والسبي والجلاء.﴿ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ﴾ من كذبك.﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ ذكر العرب بحال جدّهم الأعلى ونهيه عن عبادة غير الله وإفراده بالتوحيد والعبادة هزأ لهم ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته وأنه عليه السلام لم يقلد أباه في عبادة الأصنام فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين وترجعوا إلى النظر واتباع الحق وقرأ الجمهور براء وهو مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما يقال نحن البراء منك وقرىء بضم الباء وقرىء: بفتح الباء وكسر الراء.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي ﴾ إستثناء منقطع إذ كانوا لا يعبدون الله تعالى مع أصنامهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجروراً بدلاً من المجرور بمن كأنه قال إنني براء مما تعبدون إلا من الذي وان تكون إلا صفة بمعنى غير على ان ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو قوله تعالى:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾[الأنبياء: ٢٢] " انتهى ". فوجه البدل لا يجوز لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له وإنني براء جملة موجبة فلا يصح أن يفرغ العامل فيها الذي هو براء لما بعد إلا، وغر الزمخشري كون براء فيه معنى الانتفاء ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا وأما تقديره ما نكرة موصوفة ولم يبقها موصولة لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وهذه المسألة فيها خلاف من النحويين من قال توصف بها النكرة والمعرفة فعلى هذا تبقى ما موصولة وتكون إلا في موضع الصفة للمعرفة.﴿ ٱلَّذِي فَطَرَنِي ﴾ تنبيه على أن لا يستحق العبادة ولا يعبد إلا الخالق.﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ أي يديم هدايتي والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم وقيل على الله تعالى والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله: إنني براءة مما تعبدون إلا الذي فطرني والإِشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه السلام من العرب لما قال في عقبه قال تعالى: لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم على كفرهم فليسوا ممن بقيت كلمة التوحيد فيهم.﴿ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾ وهو القرآن.﴿ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم والضمير المرفوع في وقالوا لقريش كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله رسولاً من البشر واستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ناقضوا فيما يخص محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا لم كان محمداً ولم يكن القرآن نزل على رجل من القريتين عظيم أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال أي من إحدى القريتين وهما مكة والطائف قال ابن عباس: والذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول لو كان ما يقول محمد حقاً لنزل علي.﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم كأنه قيل أعلى اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها ثم في إضافته في قوله رحمة ربك تشريف له صلى الله عليه وسلم وان هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه الله تعالى له وإذا كان تعالى هو الذي تولى ذلك وفارق بينهم وذلك في الأمر الثاني فكيف لا يتولى ذلك في الأمر الخطير وهو إرسال من يشاء وتنبي من يشاء فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم وفي قوله: نحن قسمنا بينهم تزهيد في الانكباب على طلب الدنيا وعون على التوكل على الله تعالى وقال مقاتل: فأضلنا بينهم فمن رئيس ومرؤوس وأنشد الشافعي رضي الله عنه: ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيس وطيب عيش الأحمق﴿ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ قيل الجنة وقيل غير ذلك خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها.﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة ويصيروا أمة واحدة في الكفر قاله ابن عباس وغيره لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن. وقال ابن عطية: واللام في لمن يكفر لام الملك وفي لبيوتهم لام تخصيص كما تقول هذا الكساء لزيد لدابته أي هو لدابته حلس ولزيد ملك " انتهى ". ولا يصح ما قاله لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى أما أن يختلف المدلول فلا واللام في كليهما للتخصيص وقرىء:﴿ سُقُفاً ﴾ على الجمع كرهن ورهن وعلى الإِفراد.﴿ وَمَعَارِجَ ﴾ جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي.﴿ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ أي يعلون السطوح. وقال الزمخشري: سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة " انتهى ". كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه ولا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة والزخرف هنا الذهب. قاله ابن عباس: وفي الحديث" إياكم والحمرة فإِنها من أحب الزينة إلى الشيطان "وقال الشاعر: وصبغت درعك من دماء كماتهم لما رأيت الحسن يلبس أحمراً