﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ هذه السورة مكية ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصباً وكان ما أخبر به هو مما تلقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي وكان الكفار ينسبونه مرة إلى السحر ومرة إلى الشعر ومرة إلى الجنون فبدأ تعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه.﴿ نۤ ﴾ حرف من حروف المعجم نحو، ص، وق وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل فالحكم على موضعها بالإِعراب تخرص والعلم هو المعهود الذي للكتابة وجعل الضمير في يسطرون للناس فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة فإِن القلم أخو اللسان ومطية الفطنة ونعمة من الله تعالى عامة وجواب القسم.﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ ويظهر أن بنعمة ربك قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه عليه السلام.﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً ﴾ أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم بما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعايب.﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير مقطوع مننت الحبل قطعته.﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ أي دين عظيم وهو من الثناء عليه.﴿ بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ ﴾ الباء ظرفية تقديره في أيكم والمفتون مصدر على وزن مفعول كالمعقول والمجلود بمعنى العقل والجلد وقيل الباء زائدة وأيكم مبتدأ زيدت الباء فيه كما زادوها في قوله: بحسبك درهم أي حسبك والمفتون في هذا الوجه إسم مفعول والجملة في موضع نصب بالفعل الذي قبله وهو ويبصرون لأنه بمعنى يعلمون.﴿ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ وعيد للضال وهم المجانين على الحقيقة حيث كانت لهم عقول فلم ينتفعوا بها ولا استعملوها في اتباع ما جاءت به الرسل أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين.﴿ فَلاَ تُطِعِ ﴾ أي الذين كذبوا ما أنزل الله عليك من الوحي وهذا نهي عن طواعيتهم في شىء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم.﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ ﴾ لو هنا على رأي بعض النحويين مصدرية بمعنى أن أي ودوا ادهانكم.﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ تقدم تفسير مهين وما بعده في المفردات وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء حلاف وبعده مهين لأن النون فيها مع الميم تواخ ثم جاء هماز مشاء بنميم بصفتي المبالغة ثم جاء مناع للخير فمناع وأثيم صفتا مبالغة والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير والزنيم. قال ابن عباس: الذي له زغة في عنقه كزنمة الغنمة والظاهر أن هذه الأوصاف ليست لمعنى ألا ترى إلى قوله كل حلاف وقوله كل حلاف وقوله انا بلوناهم فإِنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال:﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ ﴾ والسمة العلامة ولما كان الوجه أشرف ما في الإِنسان والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة قالوا: حمى الأنف شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة وهم كفار قريش أخبر عن ما حل بهم من الإِبتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "الحديث.﴿ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ المعروف من خبرها عندهم أنها كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شىء كثير فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاف علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرفها مصبحين فبكروا في الغد وخيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم بقولهم إن شاء الله والكاف في كما بلونا في موضع نصب وما مصدرية.﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ ﴾ والطائف الأمر الذي قال الفراء يأتي بالليل ورد عليه بقوله:﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾[الأعراف: ٢٠١] فلم يخصص بالليل وطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والماء والعنب وغير ذلك غيرها.﴿ فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ ﴾ قال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة خزيمة.﴿ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ ﴾ دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم.﴿ أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ ﴾ قال الزمخشري: فإِن قلت هلا قيل اغدوا إلى حرثكم وما معنى علي قلت لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإِقبال كقولهم يغدي عليهم بالحفنة ويراح أي فاقبلوا على حرثكم باكرين " انتهى ". واستسلف الزمخشري أن غدا يتعدى بإِلى ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه والذي نحفظه أنه معدى بعلى كقول الشاعر: وقد أغدوا على ثبة كرام نشاوي واجدين كما نشاءوكذا عدي مرادفه قال: بكرت عليه غدوة فرأيته قعود الدية بالصريم عواد له.﴿ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾ هو من صرام النخل.﴿ يَتَخَافَتُونَ ﴾ يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين.﴿ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ﴾ أي يتخافتون بهذا الكلام.﴿ قَادِرِينَ ﴾ أي على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنهم ملكوا مرادهم والحرد المنع.﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾ أي أرجحهم عقلاً.﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ أنبهم وبخهم على تركهم ما حضهم عليه وهو تسبيح الله تعالى ولما غفلوا عن ذكر الله وعزوا على منع المساكين ابتلاهم الله تعالى ولما أنبهم رجعوا إلى ذكر الله تعالى واعترفوا على أنفسهم بالظلم وبادروا إلى تسبيح الله تعالى فقالوا:﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَآ ﴾ قال ابن عباس: أي نستغفر الله من ذنبنا ولما أقروا على أنفسهم بظلمهم لام بعضهم بعضاً إذ كان منهم من زين ومنهم من قبل ومنهم من أمر بالكف ومنهم من عصى الأمر ومنهم من سكت على رضا منه ثم اعترفوا بأنهم طغوا.﴿ عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا ﴾ أي بهذه الجنة.﴿ خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ أي طالبون إيصال الخير إلينا منه والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا والإِشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة أي كذلك العذاب الذي ينزل بقريش بغتة ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا.﴿ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ لأنه لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون فقال ان للمتقين أي الكفر جنات النعيم لأن النعيم لا يفارقها إذ ليس فيها إلا هو ولا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا وروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش إن كان ثم جنة فلنا فيها أكبر الخط فنزلت.﴿ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي لا يستوي المطيع والعاصي وهو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ ثم التفت إليهم فقال:﴿ مَا لَكُمْ ﴾ أي شىء لكم فيما تزعمون وهو استفهام إنكار عليهم ثم قال:﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ وهو استفهام ثالث على سبيل الإِنكار عليهم استفهم من هيئة حكمهم ففي قوله ما لكم استفهام عن كينونة مبهمة وفي كيف تحكمون استفهام عن هيئة حكمهم ثم أضرب من هذا اضراب انتقال لشىء آخر لا إبطال لما قبله فقال:﴿ أَمْ لَكُمْ ﴾ أي بل ألكم.﴿ كِتَابٌ ﴾ أي من عند الله.﴿ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴾ ان ما تختارونه يكون لكم وما في قوله لما موصولة بمعنى الذي وهي إسم ان والجار والمجرور قبله في موضع الخبر. و ﴿ تَخَيَّرُونَ ﴾ حذفت منه التاء أصله تتخيرون.﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾ أي ضامن بما يقولونه ويدعونه صحته وسل معلقة عن مطلوبها الثاني لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء كما قال﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ ﴾[البقرة: ٢١٧] ولو كان غير اسم إستفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء كما تقول سل زيداً عمن ينظر في كذا لكنه علق سلهم فالجملة في موضع نصب.﴿ فَلْيَأتُواْ ﴾ المراد الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه أي لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله ولا زعيم بذلك فليأتوا هذا استدعاء وتوقيف قيل في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا وقيل في الآخرة على أن يأتوا بهم.﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ كناية عن شدّة الأمر وتفاقمه في ذلك اليوم والناصب له محذوف تقديره يكون كيت وكيت من الأمور الصعبة الشاقة.﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ ﴾ ظاهر أنهم يدعون وتقدّم ان ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف وخاشعة حال.﴿ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ ﴾ أي في الدنيا.﴿ وَهُمْ سَٰلِمُونَ ﴾ أي الأعضاء قادرين على السجود.﴿ تَرْهَقُهُمْ ﴾ وتغشاهم.﴿ ذِلَّةٌ ﴾ فذرني المعنى خل بيني وبينه فإِني سأجازيه وليس ثم مانع منه وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره وكان تعالى قد قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء ومن في موضع نصب إما عطفاً على الضمير في ذرني إما على أنه مفعول معه.﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ تقدّم الكلام عليه.﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ ﴾ تقدم أيضاً روي أنه عليه السلام أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف فنزلت:﴿ فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى.﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ ﴾ هو يونس عليه السلام.﴿ إِذْ نَادَىٰ ﴾ أي في بطن الحوت وليس النهي منصباً على الذوات إنما المعنى لا يكن حالك مثل إذ نادى فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف أي كحال أو قصة صاحب الحوت إذ نادى.﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ مملوء غيظاً على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإِيمان وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم.﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ ﴾ معناه لولا هذه الحال المرجوة كانت له من نعمة الله تعالى.﴿ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ ﴾ وجواب لولا لنبذ بالعراء والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ لما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه فقال:﴿ وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ ﴾ أي ليزلقون قومك بنظرهم الحال الدال على العداوة المفرطة.﴿ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ ﴾ أي القرآن.﴿ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ تنفيراً عنه وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أكملهم فضلاً وأرجحهم عقلاً.﴿ وَمَا هُوَ ﴾ أي القرآن.﴿ إِلاَّ ذِكْرٌ ﴾ عظة وعبرة.﴿ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي للجن والإِنس فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به.