وإن أبَوهُ وقالوا: لو وقع منهم اتّفاقٌ على كتمان شيءٍ من هذا لوجب
ظهورهُ عليهم والعلمُ به من حالهم، وأن يعلم ذلك أيضاً مَنْ ليس من أهل
ملَّتِهم، لأنَّ ذلك هو موجبُ العادةِ في كتمان الجمِّ الغفير والعَدَد الكثير فيما
يتفقونَ على كتمانه، وإن جاز حقّاً تواطؤ الاثنين والنفَّرِ اليسير على ما يتَفقونَ على كتمانه.
قيل لهم: وكذلك لو اتَّفقت الأمّةُ أو عددٌ كثيرٌ منها على كتمان شيءٍ من
كتاب الله لوجبَ أن يظهرَ ذلك عليهم ويحدَّثَ به من أمرهم ويُعرَفَ من
حالهم، وهذا ما لا جواب عنه.
ويستحيلُ أيضاً أن ما أسقطوا ما كان حفظوه عن الرسول من القرآن
وَوَعَوْهُ بعد ذكرهم له ومعرفتهم به، وتركوا إثباته لأجل سهوٍ عن ذلك
عمَّهم، ونسيانٍ شَمِلَهم، وعمَّ سائرهم، لأنّه ممتنعٌ على مثل عدَدهم في
العادة، ومن هو أقلُّ منهم في العدد الكثير، ولو جازَ ذلك عليهم لجاز أن
يكونوا جميعاً قد تركوا ذكرَ فرائضَ وحدودٍ، وأحكامٍ وحروبٍ، وغزواتٍ.
ومقاتل فرسانٍ جِلَّةٍ، كانوا بمحل الصدر الأوَّلِ، وتركوا أيضاً ذكر آياتٍ أخَرَ للرسول هي أكثرُ مما نَقَلُوه بأمرٍ عظيمٍ، لا عن سهوٍ عن ذلك عمَّهم، ونسيانٍ لَحِقَ سائرَهُم وغفلةٍ اقتطعتهم عن ذكر شيءٍ منه، ومن صار إلى ركوب مثل هذا فقد بلغ في الجهل حدَّاً لا يُرجى معه برؤُه واستقامته، ولا يُطمع في الانتفاع بكلامه، لأنَّ هذا أجمع دفعٌ للضرورة وجحدٌ لموجب العادة، أو آفةٌ وغَلَبةٌ تقطع صاحبها عن التمييز، ويستحيل أن يكونوا إنّما تركوا إثبات ما سقط عليهم من القرآن لأجلِ هلاك من كان يحفظُ تلك السورِ والآيات، التي ترك القومُ إثباتها إمّا بالقتل أو الموت لأمرين: