وقد وصفنا أيضاً فيما سلفَ ما كانت عليه أحوالُ سَلَف الأمة من إعظام
القرآن وأهله، وأخذهم أنفسَهم بتحفظه وإجلال مؤدِّيه إليهم، وبذلهم
أنفسَهم وأموالهم في نُصرته وتثبيت أمره وتصديقِ ما جاء به، والخنوعِ
لموجَبِه، وأنَّ ذلك أجمع يمنع في وضع العادة وما عليه الفطرةُ من ضياع
شيء من كتاب الله تعالى وإدخال زيادةٍ فيه يشُدُّكَ أمرُها، ويخفى على الناس
حالُ المُلتبس بها.
ولقد أخرج الصحابةُ ظهورَ القرآنِ بينهم وشهرتَه فيهم وشدةَ تعليم
الرسول وتعلُّمهم إياه منه، ومُداومتهم على ذلك، وجعله دَيْدَناً وشعاراً إلى
ضربِ المثل به، وإقرائه بما شُهِرَ تعليم الرسول له على وجهه وترتيبه الذي
لا يجوزُ ويسوغُ مخالفته وتقديمُ مؤخَّرٍ منه أو تأخير مقدَّم.
وكانوا يقولون في حديث التشهُّد: "كان رسول الله - ﷺ - يعلِّمنا التشهُّدَ كما يُعَلمُنا السورةَ من القرآن ".
وإنما قالوا ذلك على وجه تعظيمِ أمرِ التشهُّد والإخبار عن تأكُّد
فريضته، ولزوم ترتيبه على سَنَن من لقَّنوه، وكيف يجوز مع هذا أن يذهبوا
عن حفظ القرآن الذي هو الأصل أن يؤخروا منه مقدَّماً أو يقدِّموا مؤخَّراً.
ويجتهدوا في إحالة نظمِه وتغيير ترتيبه.
ولقد كانوا يأخذون أنفسَهم بكثرة دراسة القرآن، والقيام به والتبتل له.
حتى ظهر ذلك من حالهم وانتشر، حتى تظاهرت الرواياتُ بأنّ الصحابةَ كان
لهم إذا قرؤوا في المسجد دَوِيّ واشتباكُ أصوات بقراءةِ القرآن، حتى يروى
أنَّ رسولَ الله - ﷺ - أمرهم إذا قرأوا أن يُخفضوا أصواتهم لئلا يُغلِّطَ بعضُهم بعضاً، ورُوِيَ عن عبد الله بن عُمرَ أنه قال: "إنَّ رسول الله - ﷺ - كان إذا قرأ