لم يكن منه قول فيه، ولا أوجبنا اتفاقَ الأمّة وحصولَ معرفةِ مَن تقوم الحجّةُ
منا بما ليس من فرائض دينها ولا هو من نوافله أيضاً ومما يسعها تركُ
الخوضِ فيه، وإنما أوجبنا هذا أجمعَ فيما نصّ الرسولُ عليه نصّا جليا
مُعلِنا قطعَ العُذْر فيه وفيما فَرَضَه على أمّته، وضيّقَ عليهم وجوبُ معرفته.
ولم يعذرهم في التخلّف والإبطاءِ عن علمه وإدراكه، وفيما يقتضي موضوعُ
العادة تحريكَ البواعث لهم على نقله وحفظِه واللهَجِ بذكره والإشاعةِ
والإذاعةِ له.
وإذا كان ذلك كذلك وكنّا لا نعتقدُ مع هذه الجملةِ أنّ الرسولَ قد نصّ
لصحابته على ما نزل عليه من القرآنِ أولاً وما نزل منه آخرا وعلى جميعِ مكّيه وسائر مدنيّه، ولا كان منه قول في ذلك ظاهراً جليّا لا يحتمل التأويلَ ولا ألزمَ الأمّة حفظَه والتديّنَ به ولا جعلَه أيضاً من نوافل دينهم كما أنه ألزمهم نظمَ سُوَرِ القرآنِ وترتيبِ كلماتهِ وحروفهِ على وجهٍ مخصوصٍ وحدّ مرسومٍ أخذَ عليهم لزومَه ومَنَعَهم من تغييره والعدولِ عنه: لم يجب أن يظهرَ ويَنتشرَ نقلُ ذلك عنه، وكيف يجبُ نقلُ ما لم يكن وما لا أصلَ له والإخبارُ به فضلاً عن وجوبِ ظهورِه وانتشاره! وإذا كان ذلك كذلك فقد بأن سقوطُ ما سألتم عنه وزوالُ ما توهمتُموه.
فإن قالوا: ما الدليلُ على أنّه لم يكن من الرسول نصّ على ذكرِ أولِ ما
أُنزل عليه من القرآن وعلى آخره، وعلى مكيّه ومدنيّه، وأنّه لم يُلزم الأمّةَ
علمَ ذلك ويدْعُهم إلى معرفته حسب نصه على ترتيب آيات السور وكلماتها
وإلزامِهم العلمَ بها، ولزومِ المنهجِ الذي شرعه ونصّ عليه في تلاوتها؟
قيل لهم: الدليلُ على ذلك أنّه لو كان كما تدّعون وكان نصّه على
الأمرين قد وقع سواءً وفرضُه لهما على الأمّة قد حصلَ حصولاً متماثلاً