قد كانت أحاطت علماً بجميع كتاب الله لظهورِ أمره وإقامةِ الحجّةِ به، وهذه
حالُ عبد الله بن مسعود في إنكار بعضه وجَحدهِ وهو من جملتهم وعمد من
عُمدِهم في حفظ الكتاب، والمتبتلِين لقراءته وإقرائه والتبحُّر في علمِ أحكامِه
ووجوهه وحروفه والمناظرةِ عليه، الذابّين عنه، ولو لم يُرْوَ عن الصحابة إلا
هذه القصةُ وحدها لكان ذلك كافياً في إبطال ما أصَّلتموه وفساد ما ادّعيتموه.
فيقال لهم: أما دعوى من ادّعى أن عبد الله بن مسعود أنكر أن تكونَ
المعوذتان قرآناً منزلاً من عند الله تعالى وجحدَ ذلك فإنها دعوى تدلُّ على
جهل من ظن صحتها وغباوته وشِدةِ بُعده عن التحصيل، وعلى بُهتِ من
عرفَ حال المعوذتين وحالَ عبد الله وسائر الصحابة، لأن كل عاقلٍ سليم
الحسن يعلمُ أن عبد الله لم يجحد المعوذتين ولا أنكرهما، ولا دفعَ أن يكون
النبي صلى الله عليه تلاهما على الأمّة، وخبّر أنهما منزلتان من عندِ الله
تعالى، وأئه أُمِرَ بأن يقولَهما على ما قيل له في أولهما، وكيف يمكنُ عبد الله
ابن مسعودٍ أو غيره من الصحابة جحدُ ذلك وإنكارُه، وذلك مما قد أعلنه
الرسولُ وأظهره وتلاه وكرّره وصلى لله به وجهر به في قراءته، وخبَّرَ أنّه من
أفضل ما أُنزل عليه، وكشف ذلك وأبانه بيانا قد اتصل بنا نحنُ ولزم العلمُ به قلوبَنا، وارتفع منه شكُّنا ورَيبُنا.
حتى لو حاول أحدُنا وغيرُنا من أهل الملل السامعةِ لأخبارنا والعارفةِ
بما أتى به نبينا أن يجحدَ ذلك ويدفعه لم يجد إلى ذلك سبيلاً، هذا مع
تطاولِ المدّة وتباعُدِ عصرِنا من عصر النبى صلى الله عليه، فإذا كانت
الأخبارُ متواترةً متظاهرةً علينا بذلك تواتراً قد أصارنا في اليقينِ وزوالِ الرَّيب
إلى ما وصفناه، فكيف بأهلِ عصر الرسول الذي تلقَّوه وسمعوه، وأخبروا به
من بعدهم ونقلوه، لأنه لا بد أن يكون عبد الله بن مسعودٍ أحد من حضر


الصفحة التالية
Icon