قد أُنزل في الجملة قرآنٌ ثم نُسِخَ ورُفع بقول أُبي وعبدِ الله، وما يدريكَ لعله
سقطَ أو ذهبَ قرآن كثير، فما وُجِدَ بعدُ إنما هو أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يدَّعي
أنه قد جمعَ ما أُنزلَ من ناسخِ القرآن ومنسوخِه، وقولُهم: "فيما وُجِدَ بعدُ"
فما نجدُ اليومَ من يحفظُ جميعَ ما نُسِخَ وسقطت تلاوتُه، وهذا مما لا بدَّ
منه، ونحوُه من التأويل لأجلِ ما ذكرناه من شُهرة أمرِ القرآنِ وظهورِ نقلِه.
وقد يمكنُ أيضاً أن يكونَ أُبي وعبدُ الله بنُ عمرَ قد عَلِمَا من حال مَن
قالَ أو كان يقول: "إنّي جمعتُ القرآنَ " أي: قد جمعتُه على جميعِ وجوهِه
وحروفِه التي أُنزل عليها، فقالا له: وما يدريكَ لعلَّه قد ذهبَ أو سقطَ قرآنٌ
كثير لم يوجَدْ بعد، أي: لم تجِدْهُ أنتَ ولا وقعَ علمُه إليك، أو لم تَجِدْ بعدُ
مَن يحفظ جميعَ تلك الأحرفِ والقراءاتِ التي أُنزل القرآنُ عليها" وإن كانت
ظاهرةً في الناس ومتفرقةً منهم، على ما سنبينُه فيما بعد، لأنّ رسولَ الله
صلى اللهُ عليهِ كان يُقرِئُهم بما سَهُلَ عليه وعليهم، ولا نَعلَمُه أقرأَ رجلاً فيهم بجميعِ الأحرفِ السبعةِ وحفَّظَهُ إيّاها وأفردَه بها، لأن ذلك مما لا يجبُ عليه ولم يَرَهُ من مصالحِ الأمّة، أو لم يتَفقْ له أو لمن أخذَ عنه نشاطٌ لحفظِ جميعِ
تلك الأحرف، وإذا كان ذلك كذلك صحَّ ما قلناه من التأويل الذي هو أَليقُ وأشبهُ أن يكونَ الصحابةُ قصَدَتْهُ وأرادَتْهُ مع ما ظهرَ من إقرارِها جميعا بأن ما بين اللوحتين هو جميعُ الثابتِ الرسمِ الذي أنزلَه تعالى.
وأمَّا ما رُوِيَ عن عائشةَ رضيَ الله عنها في الرَّضاع فإنه أيضاً دليلٌ على
ما قلناه، لأنّها قالت: "كان مما أُنزل ثم نُسِخَ بخمسٍ ".
وقولُها: "نُسِخَ " ليس فيه دلالةٌ أنّه نُسخ بقرآن، لأنّه قد يُنسخ بوحيٍ
ليس بقرآنٍ لقيام الدلالةِ على جوازِ نسخِ نفسِ التلاوةِ ونفسِ حكمِها بالسُّنّة،