أولى بالإخبار عن ظهوره وتمكلينه، وكل مسلم تدبر هذه الآيات والآثارِ التي
ذكرناها عرف أنه لم يقصد الرسولُ - ﷺ - بقوله "لتسلكُن سنَنَ الذين من قبلكم" تضييعَكُم القرآن وتحريفَه وتبديله.
فإن قالوا: أفليس قد زعمتُم أن النَبي صلى الله عليه قد حذرهم في هذه
الأخبار من تضييع العلم، وأمرهم بتعلمه قبل ذهابه، فيزعُمون أن العلم
يذهبُ دون القرآن على ما أصلتُم.
قيل له: لا، لأنه أراد عندنا بذهاب العلم ذهاب كثير من أهله وقلتهُ في
الناس، كما يقولُ القائل: ذهب الإسلام، وذهب الجودُ وارتفع الخير، ونفَد العلمُ والأدب، أي: قد قل ذلك وقل أهله وطلابُه، ولا يعني به أنه لم يبق قائم بذلك ولا معروف به، ويدلُّ على أن هذا هو مرادُه بقوله: (وَلَيُمَكِنَن لَهُم دِينهمُ)، و (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، ولو ذهب بأسره وانقرض جميعُ أهله لم يكن مُظهراً له على الدين كله، ولا ممكنا له، ويدل عليه قولُ الرسول صلى الله عليه: "لا تزالُ طائفة من أمَّتي على الحق حتى يأتي أمرُ الله وهُم على ذلك".
ولو علم أنه سيضيعُ جميعُ العلم، أو بابٍ من أبوابه حتى لا يوجد
في الأمَّة قائم، لوجب أنها قد عُطلت، وخلت من قائم بالحق في ذلك.
فأما تحذيرهُ ونهيهُ عن تضييع العلم، وحثهُ عليه وأمرهُ به ونهيُه عن
تركه، فإنه لا يدلُ شيء منه على أنهم سيضيعونه ويفعلون ما نهُوا عنه، هذه
حالةُ أمرهِ بطلبِ العلم ونهيه عن تركه، أو تجرد أو كيف بهما إذا قارنهما ما
يدل على أنه لا يذهبُ من قول النبي صلى الله عليه: "لا تزالُ طائفة من أمتي
على الحق"، وقوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، وقد قال الله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، ولم يُجِب ذلك علمَهُ