فإنه كانَ يَرفعُ الحرفَ الذي قرأ به، وينصبُه إذا كتَبهُ كراهيةَ مخالفةِ خط
المصحفِ الذي هو الإمام.
فأمَّا قولهُ تعالى: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)، فقد ذُكر فيه وجوه.
فقالَ قوم: أرادَ به يؤمنونَ بما أنزِلَ إليكَ وإلى المقيمينَ الصلاة.
وقالَ آخرونَ: أرادَ يؤمنونَ بما أُنزِل مِن قبلِكَ ومِن قبلِ المقيمنَ الصلاة َ.
قالوا: وكانَ الكِسائي يردهُ إلى يؤمنونَ بما أنزلَ إليكَ ويؤمنونَ بالمقيمينَ
الصلاة، واعتبروهُ بقولهِ في موضعٍ آخر: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وقال خلق من أهلِ العرَبيةِ هو نصب على المدح، لأن العربَ تنصِب
على المدح، وتفرِدُ الممدوحَ وتعطِفُ عن ردهِ إلى ما قبلَه، وقالَ أبو عبيدةَ
وجلة من أهلِ العلمِ بالعربية: هو نصب على تطاولِ الكلامِ بالسبقِ وهم
يستعملونَ ذلكَ في الكلامِ إذا طالَ أو تكررَ الوصفُ الذي يمدحونَ به أو
يذمون، يتحرَّجونَ من الرفعِ إلى النصب، ومِنَ النصبِ إلى الرفع، ورُبما
فَعلوا ذلكَ وإن لم يتطاول الكلامُ أيضاً ولم يُنكروا الوصفَ والذمَ والمدح.
ويعملون في ذلكَ على القَصدِ والنيةِ في اتباعِ الكلامِ بعضَه بعضا، ورُبما
أضمروا شيئا ينصِبون به أو يرفعُون، نحوِ ما قدمنا عنهم من أنَّه أرادَ يؤمنونَ
بما أنزِلَ إليك، وإلى المقيمنَ الصلاة، أو أنه أرادَ يؤمنونَ بما أنزِلَ من قَبلكِ
ومنْ قبلِ المقيمينَ الصلاة ِ ونحوِ ذلك، وأنشدوا في جوازِ رفعِ ذلكَ ونصبهِ
على تطاوُلِ الكلامِ وتكُررِ الوصفِ والمدحِ قولَ الشاعر:
لا يبعُدن قومي الذين هم سُمُ العُداة وآفةُ الجُزرِ
النازِلينَ بكلِ معتركٍ والطيبونَ معاقدَ الأزُرِ