في باب دنيا ولا دين، وإثباته له على ما أثبتوه، إذا كانت الحال على ما
وصفناه من أدل الأمور على أنهم - مأمورون بذلك ومخبَّرون بصحَّته وجوازه.
فأمّا وجهُ الحكمة من أمْرهم بذلك وتوقيفهم عليه، فإننا قد بيّنا في غير
موضع من الكلام في الأصول أن حكمة الباري سبحانه لا تثبت له إلا من
جهة فعله وتعبده، وأنه لا يشرع ويأمر وينهى ويخفف المحنة تارة، ويغلظها
أخرى لعلةٍ وباعثٍ وخاطرٍ ومحرّك، وأسبابٍ تدعوه إلى ما شرع ويبعثه على
ما تعبد، وكشفنا ذلك بغير وجه، وأقربُ ما يقال في هذا أئّه إنما أنزله
سبحانه كذلك وأمرهم بإثباته على هذا الوجه، وإن كان السلف يعرفون وجه الصواب فيه، والمخرج تغليظا لمحنة الخلف وتشديداً لها ولتعمِلَ آراءَها
وأفكارها، وتكثرَ نَظرها واستخراجَها فيما بيَّن صواب هذه الأحرف وتخرجَها عن اللحن والخطأ، وينقصونَ تصحيح ما يؤديهم النظر والاستخراجُ ومعرفة لطيف ما يحتج به لصحة هذه الأحرف على من خالفهم من الملحدين، وقدح في كتابهم وعلى سلفٍ من الزائغين والمنحرفين، فيكون ذلك ذريعةً إلى إجزال ثوابهم وسبيلاً ووصله تفضلهم وإعظامهم وألاحتجاج على أهل الجهل والإهمال والتقصير بهم، والأمر بالرجوع إلى بيانهم والمصير
إلى برهانهم، ولو أنزل تعالى جميع كتابه بالأحرف الظاهرة وبما يستوي في
معرفته الخاصة والعامة لبطلت هذه الفضلية وزالت المؤونة، كما أنه لو أنزل
جميع كتابه محكما بينا غير مشكل ولا مجملٍ ولا محتملٍ للتأويل ولا مما
يحتاج في معرفة معناه إلى برهان ودليل لخفت المحنة وزالت المؤونة
وبطلت فضيلة العالم على الجاهل، والمجتهد الناظر على المهمل المقصر.
وبطل معنى ما قصده تعالى بقوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، ولم يكن هذا التعظيم لشأن أهل العلم، والتفخيبم والإشادة