قالوا: ومما يدلّ أيضاً على تغيير القرآن وتلاوة القوم له ورسمه على
خلاف ما أنزل الله تعالى، وجودنا فيه خطابا للحاضر بما هو مبين للغائب.
وليس يحسُنْ أن يقول القائلُ اختبرتكُ فوجدته ثقةً مناصحاً، ورأيتكَ أمس
صحيحاً مناظّراً فاستعقلته واسترجَحته، لأنّ ذلك أجمعَ خطاب للحاضرِ بما
هو موضوع للغائب، وقد وجدَنا مثل هذا في مصحف عثمان فمن ذلك قوله: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، فبدأ بخطاب الحاضر
فيه بقوله: "كنتم " ثم جاء بخطاب الغائب بقوله: "وجرين بهم "، ومنه أيضا
قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)، وذلك خطاب الحاضر، ثم قال: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، وهو خطالب للغانب، ومنه أيضاً قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩).
وهم للغائب وقوله: آتيتم وتريدون للحاضر، وهذا تخليط لا يجوزُ وروده من عند الحكيم العليم.
فيقال لهم: هذا توهم منكم، لأن أهل اللغة قد أطبقوا على أنّه قد
يحسُن أن يصل الخطاب الحاضرُ ما يصلحُ للغائب في مواضع قد عُرفت
وجرت بها عادتُهم، ولذلك قد يردُ خطابُ الغائب أيضاً على وجه ما
يُستعملُ خطابُ الحاضر، ويجب أن يسوغَ ذلك ويستحسنه حيث استحسنوه.
قال الشاعر:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياء فالسَنَدِ | أقْوَتْ ومرَّ عليها سالفُ الأبدِ |