أن يكونَ شيء من ذلك إضلالاً لمن خالَفه واعتقدَ بطلانه، ودعا إلى خلافه
وتمسكَ بالحق الذي أمر به، ولذلك لم يكن مضلاً بما خلقه من حياة العجلِ
وخوارِه أحداً ممن لم يعبُده، ولا كان فرعونُ والسامريٌّ والمجرمونَ
والشياطينُ مضلين لأحدٍ من الأنبياءِ والمؤمنينَ والمتمسكينَ بإيمانهم، لما لم
يستضروا بذلك ولا أجابوا إليه، فوجبَ بذلك أن تكون الدعوةُ إلى الضلال
إضلالا لمن أجابَ إليها، دون من خالفها وردها، ولو لم يكن الأمرُ في
ذلك على ما قلناه، وكان على ما قالَه الملحدون في آيات اللهِ وتوهمَتْه
القدريةُ لما أخبرَ الله بعضَ قولنا هذا، وتأويلُنا عن أصفيائه وأنبيائِه
والمتحملينَ لرسالته ومن جعلهم واسطة بينَه وبينَ خَلْقه.
قال الله تعالى في قصة شعيبٍ بعدَ وصفِ سيرته مع قومه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩).
فأخبر عنه عليه السلام باعترافِه بأن الله قد نجاه من ملتهم التي هي الكفر، وقد عُلم أن هذه النجاةَ ليست هي الدعوةُ والبيان، لأنه لو كان ذلك كذلك لكان نجا بدعوته جميعَ قومِ شعيبٍ وسائر الكافرين، ثم قال: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا)، فأخبر أن عودَه وعودَ كل أحدٍ إلى ملةِ الكفر ودخوله فيها لا يكون إلا بمشيئة الله، وهذا نفسُ ما قلناهُ وأخبرَنا به.
فأخبر تعالى عن موسى بمثل ذلك فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥).