لأنه لو كان ملم بفعله بهم لوجبَ بُخْلُهُ عليهم واستفساده لهم، وذلك إخراج له عن الحكمة، فإذا لم يكن عندهم قادراً على التسوية بينَ الكافرين
والمؤمنين فما معنى امتنانَه على المؤمنين، وإخبارَه بتخصيصه لهم بأجرٍ لو
حاولَ فعلُه بالكافرين لم يكن عنده ولا تحتَ قدرته، على أن القولَ بأن
الهدايةَ لطف من فعلِ اللهِ فيهم نقضٌ لقول من قال منهم إنها لا تكون بمعنى
الحكم والتسمية، وجميعُ ما قدَّمناه ونزَلناه يدلُّ على إبطال ما ألبسَ به
الملحدون، وتعلَّقت به القدرية، وتكشفُ عن ترتيب الإضلال من اللهِ ومن
غيره، وترتيبِ الهداية منه وتفضيلها، ويوجبُ تنزيلَ الظواهر التي يوردونها.
وحملِها على ما رتبناه دون ما قالوه.
فأمَّا إضافةُ المعاصي وضروبُ الكفر والضلالِ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه
إلى أنفسِ العصاةِ والكفار، فإنّه أيضا غيرُ منافٍ لإضافةِ إضلالِهم تعالى إلى
نفسِه، لأنه سبحانه إنما أضافَ ذلك إليهم من حيثُ كانوا مكتسبين له
وقادرين عليه، وعلى تركِه، ومن حيثُ كانت هذه المعاصِي صفاتٍ لهم
وحالَّةً فيهم ومتعلّقةً بهم ضرباً من التعلُّق، وأضافَ إضلالَهم إلى نفسهِ تعالى
من حيثُ هو الخالقُ لها والقادرُ على اختراعها دون جميع الخلق، ومن
حيثُ كان سبب اكتسابهم لها وما ورَّطهم فيها من قوله تعالى وإن كان عادلاً
حكيما بذلك أجمع، لأنّ الخلقَ خلقُهُ وهم تحتَ قبضتِه لا اعتراضَ لمخلوقٍ
، في حكمهِ وقضائِه وقدرِه، فهذا التنزيلُ أيضا لا ينافي إضافَةَ المعاصي تارةً
إليهم وتارةً إليه، من جهةِ الخلق قال الله سبحانَه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، وقال: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)، وقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩).
وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ).