(وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي: تكذبون فكيف يردُّ هذا القولُ على المشركين لو قالوه على وجهِ الإقرار والتصديق وهو سبحانَه يخبرُ بصحَّة ذلك ويدعوا
إليه، ويقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ).
ويقول: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧).
ويقول: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ)، في أمثالٍ لهذه الآيات يخبرُ فيها أنه لم يكن ما كان من الكفار إلا بمشيئته، وأنَّه لو شاء أن لا يكون لما كان، فكيف يكذبُ قوما قالوا هذا القولَ واعتقدوا صحته، لولا جهلُ من يتعلقُ بهذا ووغادَتُه من القدرية والملحدة.
ومما يدلُّ أيضاً على أن التأويل َ في ذلك على ما قلناه وإن كان ظاهرا لا
يحتاجُ إلى تأويل عند من تأمل صدور الكلام والقصص، وإعجازها.
ومخارجَ الكلامِ وأسبابِه، أن اللهَ تعالى قال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
، بالتشديد كما كذبَ قومُكَ يا محمد ولو أراد الإخبارَ عن أن
هذا القولَ كذب منهم لقال كذلك كذبَ الذين من قبلهم مخففا من الكذب
ولم يقل كذَّب مشدد من التكذيب، فهذا أيضا دليل واضح من نفسِ التلاوة
على أن القومَ قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسل، ولما ورد من إخبارِ اللهِ
تعالى بما قدمنا ذِكرَه ولم يقولوه على وجه الاعتقاد والتصديق.
فإن قالوا: قد قال اللهُ تعالى عقيبَ قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨).