ليس بنقض لإخباره عن إضلالِهم والطبعِ على قلوبِهم والخلقِ والتقديرِ
لأعمالهم، لأن القومَ لم يدَّعوا أنّ الله خَلقَ أفعالَهم وقضى وقذَر أعمالَهم.
فينفي اللهُ سبحانَه ذلك عن نفسِه بقوله: (وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وإنما ادعوا
أن التوراة أنزلَها الله محرفةً ومبدَّلة على ما أوهموا سفَلَتهم وعامّتهم وأوغادِ
النّاس، وإنّما ادّعوا ذلك بعد أن حرَّفوا التوراة وغيَّروها، وغيَّروا وصفَ
الرسولِ وذِكرَ البشارة به في التوراة فقال اللهُ تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ (يعني: التوراة واللَّي الكذب، ومنه قولُه تعالى: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)، ثم قال: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ (كما يدَّعون) وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾.
أي: لم ينزِّل اللهُ عليهم الكتاب بذلك، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما
ظنه الملحدةُ والقدريَّةُ من التعلقِ بهذه الآية.
فأمّا قولُه تعالى: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، وأنه أيضا لا معارضةَ بينَه وبينَ إخباره عن إضلالهم، وتوليه لخلق أعمالهم، لأنه تعالى إنَّما قصدَ بذلك البراءةَ من العهود التي كانت بينَ رسول اللهِ - ﷺ - وبينَ المشركين، ولم يعرضْ لذكرِ شركِهم ومعاصيهم، فقال اللهُ تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)، إلى قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ).
فكلُّ هذا يدلُّ على أنّ البراءةَ من اللهِ ورسوله إنّما هي براءةٌ من العهود وإنفاذِ الرسولِ لسورة براءة، والقصَّةُ في ذلك مشهورة، وأنَّه قال: "لا يؤدِّي عني إلا رجلٌ منِّي " يعني عليّا عليه السلام.
فَحَمْلُ الآية على التبرِّي من شركِهم ومعاصيهم جهل وغباوة أو عناد
وإلباسٌ على الضعفاء، ولو كانت براءةُ اللَّهِ فيهم براءة من خلقِ أفعالهم