الأول، وإن كان هو الخالق، لأن الجزاءَ عليه لم يقع من حيث الخلق.
ولكن من حيثُ اكتسبوه على ما بيَّنَّاه في كتاب "خلق الأفعال"، وكذلك
قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، كأنّه ضلال عظيم مخصوص حكمَ تعالى بأنه لا يضل به إلا بعدَ خلقه بضرب من الضلال دونَه في الفاسقين، فإذا فسقوا بالضلالة الأولة، أضلهم بالضلال الثاني الذي هو أعظمُ وأضرُّ من الأول، وكذلك قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، إنّما هو متوجه إلى ضلال مخصوص، فكأنه
قال: وما كان الله ليُضل قوما بذلك الضرب من الضلال حتى يُبين لهم ما
يتقون ثم يعصون في البيان الأول، يُضلهم بالإضلال العظيم الثاني على
سبيل العقوبة والانتقام، وإن كان قد قيل في تأويلِ الآية وجه آخر، وليسَ
بينَ إخباره بأنَّه لا يضل بضربِ من الضلال إلا قوماَ فسقوا وضلوا وزاغوا عن الحق، وبينَ إخبارِه بأن كلّ ضلالِ ابتداءَ فهو المضلُّ به تناقضٌ ولا منافاة
وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه.
فأمَّا القدريَّة فإن جميعَ هذه الآيات عليهم لأنهم فريقان، فريق زعمَ أن
الله لا يُضِل أحدا بفعلِ شيءٍ فيه، وإنَّما يُضِل بمعنى الحُكمِ والتسمية
بالضلال، وهو عندهم يضل بالحكمِ والتسمية على طريقِ الابتداء، وعلى
غير وجه الابتداء، لأنه لا يجوز عندهم أن لا يُسمي أحداً بضلالة ضالا إلا
حتى يكون منه ضلالا قبل ذلك وزيغُ قلب، لأنه يسمى بالضلال والزيغِ
الأول، وإن لم يكن قبلَ ضلالِه ضلال ولا زيغ، فلا حجة لهم في هذه
الآيات.
ولو جازَ أن لا يسمي الله بالضلال إلا من كان فيه فسق وضلال تقدم
لجاز أيضا أن لا يسمى الفسقَ والضلال الثاني إلا من كان منه ضلال أول،