ويحتمل أيضاً أن يكون أراد بالرضا والمحبة الاجتباء والتفضيلَ
والاصطفاء، فقال: لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر أي لا
يصطفيهما ويفضلهما، لأن المحبةَ والرضى عند كثير من الناس اصطفاء
وتفضيل، وذلك منفي عن الكفر والفساد، لأن اللهَ سبحانَه قد حقَّرهما
وذمهما، وقال أصحابُ هذا الجواب: وإطلاقُ المحبة والرضى يوهمُ الأمرَ
بهما ويدينُ العباد بفعلهما، وذلك باطل.
فأمَّا قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) فإنّما ذمهم
بمحبتهم أن يكون ما قيل في أمِّ المؤمنين حقًّا وصدقا، فاللهُ سبحانَه لم يحبَّ
أن يكون ما أُشيعَ من الفاحشة حقًّا وصدقاً على ما أشيع، وأن يكون إنما
ذمهم على هذه الإرادة لكونها قبيحة منهياً عنها، لأنهم قد نُهوا عن إشاعة
الفاحشةِ في المؤمنين والتخرُّص عليهم والأراجيف بهم، ونُهوا عن محبة
إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فنفسُ الإشاعة ونفسُ الإرادة لذلك معصيتان
قبيحتان، وإرادةُ اللهِ لذلك ليست بقبيحةٍ ولا معصية، فلم يجب أن يكون
مذموما بإرادته المعصية أن تكون قبيحةً فاسدةً ممن عُلِمَ وقوعُها منه، إذا لم
يكن منهيا عن إرادته لذلك كما يجب أن يكون مطيعاً لإرادته للطاعة من
العباد إذا لم يكن مأموراً بإرادته للطاعة، وإن كانت إرادتنا نحن للطاعة طاعةً
من حيثُ أُمرنا بها، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمه القَدَريةُ والملحِدةُ
من حصول طائلٍ ونفعٍ لهم في التعلُّق بهذه الآيات.
فأمَّا تعلُّق الفريقين بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا).
و (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)، فإنه لا تعلق لهم في ذلك، لأجل أن الأمَّة متفقة وجميعُ أهل اللغة والتفسير على أنّ المرادَ بقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)