فأمَّا قولهم: إنه لا معنى لقوله في أم الكتاب (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
لأنه قد أفاد بالرحمن ما أفاده بالرحيم، ولا لقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأنه إن كان حَمِدَ نفسَه فأيُّ فائدةٍ في حمدِه لنفسه، وإن كان أرادَ الأمرَ بحمده فألاَ قال: قولوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فإنه تعلُّقٌ باطلٌ وليس الأمرُ فيه على ما توهموه، لأن في قوله: (بِسْمِ اللَّهِ) إضمارَ كلام مقدر قد حُذِف لأنه قد عُرِفَ أن القصدَ به بسم الله أفتتحُ أو أبتدءُ أو أستعيذ أو أستنْصِرُ ونحوُ ذلك، ولكن لما كثُر استعمال ذلك وما يقوم مقامَهُ في فواتح الكُتب والخطب والرسائل وعُرف الغرضُ فيه ومقصِدُ
العرب بقولهم في مبادىء كتبهم: "باسمك اللهم" حُذِف ذكرُ الابتداء أو
الافتتاح أو الاستعاذة وما يُقدر في هذا الكلام مما تتمُّ به فائدة، لأنه إن لم
يقدَّرْ ذلك لم يكن للقول: "بسم الله " معنىً ولا خبر فتنعقد به الفائدة، وهذا
يسْقط ما توهموه.
فأمَّا قوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فإن ابنَ عباسٍ قال في تأويله:
"إنهما اسمان دقيقان أحدهما أدقُّ من الآخر صاحبه، فالرحمن الدقيق والرحيم
العاطف على خَلْقه بالرزق والإنعام، وهما اسمان مشتقان من الرحمة.
وقد يجوز أن يكون إنما كرر الاسم باللفظين، لأن في أحدهما من
المبالغة ما ليس في الآخر، لأن رحمان من أبنية المبالغة على وزن قولك
شبعان وغضبان وملآن إذا امتلأ غضبا وشبعا، فقال: "الرحيم" وهو اسمٌ
مشترك بيَنه وبينَ غيره لأنك تقول: الله رحيم، وزيد رحيم، ومولىً رحيم.
ثم قال: "الرحمن " على وجه المبالغة، لأن رحمته وَسِعَت كل شيءٍ ولأن
عنده من الرحمة ما ليس عند خَلْقه ثم قال: "الرحيم" على وجه المبالغة
أيضا، فإنه بمعنى العاطف الرقيق على خَلْقه بالرزق والإنعام، وإن كانت


الصفحة التالية
Icon