ثم قال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ).
يقولُ اللهُ تعالى مع ذكر كل نعمةٍ من نعمه وأنه من آثارِ قدرته وشواهدِ ربوبيته: هل مع اللهِ إله يفعلُ ذلك أو يقدر، على وجه التنبيه لهم والإذكار بنعمِه والدعاء إلى الاستدلال على وحدانيته، وليس هذا ونحوه من العيِّ والتكرار في شيء.
فأمَّا تكرارُه في سورة الرحمن: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
فإنه أيضا ليس بتكرار، لأنه عدَّد لهم ضروباً من الإنعام مختلفة، ثم قال للإنس والجن عقيبَ ذكرِ نعمه، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، أي بأيِّ هذا تكذبان أم بهذا أم بهذا، فيدلُهم بذلك على كثرةِ نعمِه عليهم، وأنه لا ينبغي أن يكفروا ويجْحَدوا شيئا من ذلك.
وقد تقول العربُ لمن تنهاهُ عن البغيِ والفساد في الأرض، أتقتلُ فلاناً
وأنتَ تعلمُ براءَة ساحته، وتقتلُ فلانا وأنتَ تعرفُ نسكَهُ ودينه، وتقتلُ فلانا
وأنت تعلَمُ إجابةَ دعوته، وحُسنَ قبوله في الناس، ولا يزالُ يعددُ عليه
أوصافَ من ينهاهُ عن قتله، ويعتقدُ انزجاره بذكرِ صفاته، ويكررُ ذكرَ القتلِ
وليسَ ذلك بعيٍّ ولا تكرارٍ من القولِ بل هو نفسُ تعبيرِ البراعة، وحُسنِ
اللَّسَن، فسقط ما تعلقوا به.
فإن قالوا: فإن اللهَ تعالى قد كرر في هذه السورة قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، عند ذكر ما ليسَ من النعم والإفضال في شيء، فقال: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥).
وقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦).