ثانياً: أن القرآن يستخدم هذا الأسلوب في معان أساسية داخلة - لا محال -
ضمن مقتضيات الأحوال. وهو بهذا يسمو بالطباق - كما يسمو بغيره من ألوان البديع - فوق ما يعتبره البلاغيون من الحسن الإضافى إلى الدلالة الذاتية.
خاصة عندما يُجرى القرآن مقارنة بين حقيقتين مختلفتين فيكون التقابل بينهما - حينئذ - واجباً في حكم البلاغة..
وإلا فكيف يمكن إجراء تلك المقارنة فى غياب طرفيها؟
ثالثاً: أن الطباق في القرآن الكريم - ومثله كل فنون البديع - يؤدى دوراً
هاماً في مظاهر إعجازه، وهو سمة عظيمة من سمات أسلوبه قد سلم - مع
كثرته - من التكلف بل هو آية الحسن ومصدر العجب، بينما نرى كل مسرف فيه يسير ثم يكبوا ويصيب ثم يخطئ.. وإن شئت فوازن بين قوله تعالي، وقد طابق فيه بين أرِبعة وأربعة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠).
وبين قول الشاعر وقد طابق فيه بين خمسة وخمسة:
أزُورُهْم وَسَوادُ الليْلِ يَشْفَعُ لِى... وَأنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُبْحِ يُغْرِي بِي
وازن بينهما لترى الفَرق من حيث نزاهة الألفاظ وجزالتها في القرآن ثم دقة
التعبير وشرف المعنى، وهل أنت واجد في قولة هذا الشاعر نظيراً لتلك؟
ولم يسلم بيت أبى الطيب المذكور من المآخذات، قال ابن سنان ينقده: " فهذا البيت مع ما به من التكلف كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها عن طريق المعنى بمنزلة الضد: فأزورهم وأنثنى، وسواد وبياض، والليل والصبح، ويشفع ويغري، ولي وبي. وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين، بل يجعلون ضد الليل النهار، لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ، وأكثر ما يقال: الليل والنهار، ولا يقال: الليل والصبح ".
* *