قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ﴾ الآية. [٢١٧].
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشيرازي، حدَّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن خِمَيْرُوَيْةِ الهروي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الخزاعي، حدَّثنا أبو اليمان: الحكم بن نافع، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال:
أخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث سرّية من المسلمين وأمرَ عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي، فانطلقوا حتى هبطوا نَخْلَة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش، في يوم يقي من الشهر الحرام؛ فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلاَّ من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أَشْفَيْتُم عليه. فغلب عَلَى الأمْر الذين يريدون عرض الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره، فبلغ ذلك كفار قريش، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين وبين المشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أَتُحِلُّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ﴾ إلى آخر الآية.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الحارثي. أخبرني عبد الله بن محمد بن جعفر، حدَّثنا عبد الرحمن بن محمد الرازيّ، حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق، عن الزّهري قال.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن جحش ومعه نفر من المهاجرين، فقتل عبد الله بن وَاقِد الليثيُّ عمرو بن الحضرمي، في آخر يوم من رجب وأسروا رجلين، واستاقوا العير، فوقف على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لم آمركم بالقتال في الشهر الحرام. فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ﴾ إلى قوله: ﴿وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ﴾ أي قد كانوا يفتنونكم وأنتم في حرم الله بعد إيمانكم، وهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم بالله.
قال الزهري: لما نزل هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وفَادَى الأسيرين. ولما فرّج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم، طمعوا فيما عند الله من ثوابه، فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة ولا نعطى فيها أجر المجاهدين في سبيل الله، فأنزل الله تعالى فيها: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ﴾ الآية.
قال المفسرون: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقّاص الزهري، وعُكَّاشَة بن محْصَن الأسدي، وعُتْبة بن غَزْوان السلمي، وأبا حُذَيْفَة بن عتبة بن ربيعة، وسُهَيْل بن بيضاء، وعامر بن ربيعة، ووَاقِد بن عبد الله، وخالد بن بُكَيْر؛ وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال: سر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نَخْلَةَ، فترصَّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر" فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك وقال: إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرُع، وقد أضل سعد بن ابي وقّاص وعُتْبة بن غَزْوان بعيراً لهما كانا يَعْتَقِبَانِه، فأستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا بَطْنَ نَخْلة بين مكة والطائف، فبيناهم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأَدَماً وتجارة من تجارة الطائف، فيهم عمرو بن الحَضْرَمِيّ، والحكم بن كَيْسَان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونَوْفل بن عبد الله، المَخْزُومِيَّان. فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هابوهم، فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا: قوم عُمَّار، فحلقوا رأس عُكَّاشَة، ثم أشرف عليهم فقالوا: قوم عُمَّار لا بأس عليكم. فأمنوهم، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى أو هو رجب، فتشاور القوم فيهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة ليَدخلُن الحَرمَ فليمتنعن منكم، فاجمعوا أمرهم في مُوَاقَعَة القوم، فرمى وَاقِد بن عبد الله التَّمِيمِي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين، واستأسر الحكم وعثمان، فكانا أول أسيرين في الإسلام. وأفلت نوفل وأعجزهم. واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمدينة فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف ويَيْذَعِرُّ الناس لمعاشهم، فسفكَ فيه الدماء وأخذ فيه الحَرَائب، وعير بذلك أهلُ مكة من كان بها من المسلمين فقالوا: يا معشر الصُّبَاة، استحللتم الشهر الحرام فقاتلتم فيه. وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا وَاقِد: وقَدَت الحرب وعمْرو: عَمَرَت الحرب والحَضْرَمي: حَضَرَت الحرب، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لابن جحش واصحابه: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووَقَّفَ العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فعظم ذلك على أصحاب السرية، وظنوا أن قد هلكوا، وسُقِطَ في أيديهم، وقالوا: يا رسول الله، إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب، فلا ندري أفي رجب أصبناه أو في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ﴾ الآية. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسم الباقي بين اصحاب السَّرِيَّة فكان أول غنيمة في الإسلام. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال: بل نَقِفُهما حتى يقدم سعد وعتبة، فإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فاداهما.
وأما الحكم بن كَيْسَان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً.
وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً.
وأما نَوْفَل فَضَرَب بطنَ فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً. فقتله الله تعالى وطلب المشركون جيفته بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوه فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية.
فهذا سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ﴾ والآية التي بعدها.