والله أعلم ـ بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل: ﴿وفتحت السماء فكانت أبواباً﴾ فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبواباً ﴿يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. [المعارج: ٨ ـ ٩].
وثم صفة أخرى ذكرها الله في قوله: {وسيرت الجبال فكانت سراباً﴾
أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير ﴿وسيرت الجبال فكانت سراباً﴾. قوله تعالى: ﴿إن جهنم كانت مرصاداً أي مرصدة ومعدة للطاغين وجهنم أسم من أسماء كثيرة وسميت بهذا الأسملأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها وقعرها أعاذنا الله وإياكم منها وهي مرصاد للطاغين قد اعدها الله عز وجل لهم من الآن فهي موجودة كما قال تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين﴾ [البقرة: ٢٤] حين عرضت عليه وهو يصلي صلاة الكسوف (١). ورأي فيها إمرأة تعذب في قطة لها حبستها لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تاكل من خشاش الأرض (٢) ؛ ورأي فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار (٣) يعني امعائه لأنه كان أول من أدخل الشرك على العرب؛ هذه النار يقول الله عز وجل أنها: ﴿للطاغين مآبا﴾ والطاغون جمع طاغ وهو الذي تجاوز الحد كما قال تعالى: ﴿إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية﴾ [الحاقة: ١١]. أي زاد وتجاوز حده وحد النسان مذكور في قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. [الذاريات: ٥٦].
وتجاوز الحد يكون في حقوق الله ويكون في حقوق العباد، أما في حقوق الله _ عز وجل _ فإنه التفريط في الواجب أو التعدي في المحرم، وأما الطغيان في حقوق الآدميين فهو العدوان عليهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم. وهذه الثلاثة التي حرمها رسول الله صلى الله وآله وسلم، وأعلن تحريمها في حجة الوداع في أكثر من موضع فقال: ((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) (٤).
فالطغاة في حقوق الله وفي حقوق العباد هم أهل النار والعياذ بالله؛ ولهذا قال: ﴿للطاغين مآبا﴾. أي مكان أواب، والأوب في الأصل الرجوع، كما قال تعالى: ﴿نعم العبد إنه أواب﴾ [ص: ٣٠]. أي رجاع إلى الله _ عز وجل _ ﴿لابثين فيها أحقابا﴾ أي باقين فيها، ﴿أحقابا﴾ أي مدداً طويلة؛ وقد دل القرآن الكريم على أن هذه المدد لا نهاية لها وأنها مدد أبدية كما جاء ذلك مصرحاً به في ثلاث آيات من كتاب الله في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿إن الذين ظلموا وكفروا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩]. وفي سورة الأحزاب ﴿إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبدا لا يجدون ولياً ولا نصيرا﴾ [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥]. وفي سورة الجن في قوله تعالى: ﴿ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا﴾ [الجن: ٢٣].
فإذا كان الله تعالى صرح في ثلاث آيات من كتابه بأن أصحاب النار مخلدون فيها أبداً، فإنه يلزم أن تكون النار باقيةً أبد الآبدين وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، إن النار والجنة مخلوقتان ولا تفنيان أبداً ووجد خلاف يسير من بعض أهل السنة في أبدية النار، وزعموا انها غير مؤبدة، واستدلوا بحجج هي في الحقيقة شبه لا دلالة فيها لما ذهبوا إليه، وإذا قورنت بالأدلة الأخرى، تبين أنه لا معول على المخالف فيه ولا على قوله، والواجب على المؤمن أن يعتقد ما دل عليه كتاب الله دلالة صريحة لا تحتمل التأويل، والآيات الثلاث التي ذكرناها كلها آيات محكمة لا يتطرق إليها النسخ، ولا يتطرق إليها الاحتمال، أما عدم تطرق النسخ إليها فلأنها خبر، واخبار الله _ عز وجل _ لا تنسخ وكذلك أخبار رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن نسخ أحد الخبرين بالآخر يستلزم كذب أحد الخبرين، إما تعمداً من المخبر أو جهلاً بالحال، وكل ذلك ممتنع في خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، المبني على الوحي، وأما عدم تطرق الأحتمال فللتصريح بالأبدية في الآيات الثلاث، والمهم أنه يجب علينا أن نعتقد شيئين:
الشيء الأول: وجود الجنة والنار الآن وأدلة ذلك من القرأن والسنة كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ [آل عمران: ١٣٣]. والإعداد التهيئة وهذا الفعل (أعدت) فعل ماضي يدل علي أن الإعداد قد وقع وكذلك قال الله تعالى في النار: ﴿واتقوا النار التي أعدت للكافرين﴾ [آل عمران: ١٣١]. والإعداد تهيئة الشيء، والفعل هنا ماض يدل على الوقوع وقد جاءت السنة صريحة في ذلك في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رأي الجنة ورأي النار.
الشيء الثاني: أعتقاد أنهما داران أبديتان من دخلهما وهو من أهلهما فإنه يكون فيهما أبداً، أما الجنة فمن دخلها لا يخرج منها كما قال تعالى: ﴿وما هم منها بمخرجين﴾ [الحجر: ٤٨]. واما النار فإن عصاة المؤمنين يدخلون فيها ما شاء الله أن يبقوا فيها، ثم يكون مآلهم الجنة كما شهدت بذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى ﴿لا بثين فيها أحقابا﴾. لا تدل بأي حال من الأحوال على أن هذه الأحقاب مؤمدة يعني إلى أمد ثم تنتهي، بل المعنى أحقاباً كثيرة لا نهاية لها. ﴿لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً﴾ نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم. ذلك لأنهم والعياذ بالله إذا عطشوا واستغاثوا كانو كما قال الله تعالى: ﴿وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً﴾ [الكهف: ٢٩]. وهل الماء الذي كالمهل وإذا قرب من الوجه شوى الوجه هل ينتفع به صاحبه؟ الجواب استمع قول اله تعالى: ﴿وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم﴾ [محمد: ١٥]. أما في ظاهر الجسم فقد قال الله تعالى: ﴿خذوه فأعتلوه في سواء الجحيم. ثم في صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم﴾ [الخان: ٤٧ - ٤٨]. وقال تعالى: ﴿يصب من فوق رؤوسهم الحميم. يُصهر به ما في بطونهم والجلود﴾ [الحج: ١٩ - ٢٠]. ما في بطونهم الأمعاء وهي باطن الجسم، فمن كان كذلك فإنهم لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً يطفئ حرارة بطونهم ومن تدبر ما في القرأن والسنة من الوعيد الشديد لأهل النار فإنه كما قال السلف: (عجبت للنار كيف ينام هاربها، وعجبت للجنة كيف ينام طالبها).
إننا لو قال لنا قائل: أن لكم في أقصى الدنيا قصوراً وأنهاراً وزوجات وفاكهة لا تنقطع عنا، ولا ننقطع دونها بل هي إلى أبد الآبدين، لكنا نسير على أهداب أعيننا ليلاً ونهاراً لنصل إلى هذه الجنة التي بها هذا النعيم العظيم، والتي نعيمها دائم لا يقطع، وشباب ساكنها دائم لا يهرم، وصحته دائمة ليس فيها سقم، وأنظروا إلى الناس اليوم يذهبون إلى مشارق الأرض ومغاربها لينالوا درهماً او ديناراً قد يتمتعون بذلك وقد لا يتمتعون به، فما بالنا نقف هذا الموقف من طلب الجنة، وهذا الموقف من الهرب من النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
﴿إلا حميماً وغساقاً﴾ الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة. ﴿يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه﴾ [الكهف: ٢٩]. ﴿وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم﴾. [محمد: ١٥]. ﴿وغساقاً﴾ قال المفسرون: إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم ـ والعياذ بالله ـ بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد
_________
(١) أخرجه البخاري، رقم (٤٣١) كتاب الصلاة.
(٢) أخرجه مسلم رقم (٩٠٤) كتاب الكسوف.
(٣) أخرجه البخاري رقم (٢٦٢٣) كتاب التفسير، ومسلم رقم (٢٨٥٦) كتاب الجنة.
(٤) أخرجه مسلم رقم (١٤٧) كتاب الحج


الصفحة التالية
Icon