وقال السدي، عن أصحابه: لما وقع من هذا ما وقع، أنزل الله هذه الآية يطيب نفس محمد، ويخبره أن الأنبياء قبله قد كانوا مثله، ولم يبعث نبي إلا تمنى أن يؤمن قومه، ولم يتمنى ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه.
﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: ٥٢] وعلى هذا معنى قوله: ﴿إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] إذا أحب شيئا ألقى الشيطان في محبته، وهذا دليل على جواز الخطأ والنسيان على الرسل، ثم لا يقارون على ذلك، وعلى ما قال ابن عباس، إنما قاله الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن له من ذلك إحساس قبل، كانت فتنة من الله لعباده المؤمنين والمشركين.
وهو قوله: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً﴾ [الحج: ٥٣] أي محنة، ولله أن يمتحن بما يشاء، واللام في قوله: ليجعل متعلقة بقوله: ألقى، أي: ليجعل الله ما يلقي فتنة، ﴿لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الحج: ٥٣] شك ونفاق، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، فازدادوا عتوا، وظنوا أن محمد يقول الشيء من عند نفسه ثم يندم فيبطله، وكذلك المشركون ازدادوا شرا وضلالة وتكذيبا، وهو قوله: والقاسية قلوبهم قال ابن عباس: يريد المشركين، وهم الذين لا تلين قلوبهم لتوحيد الله.
وإن الظالمين يعني: أهل مكة، ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج: ٥٣] لفي خلاف شديد.
ثم وصف حال المؤمنين في هذه الفتنة، فقال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [الحج: ٥٤] التوحيد والقرآن، وقال السدي: والتصديق بنسخ الله.
وهو قوله: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الحج: ٥٤] أن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله، فيؤمنوا به فيصدقوا بالنسخ، ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٤] ترق قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه، بخلاف المشركين الذين قيل فيهم: والقاسية قلوبهم، ثم بين أن هذا الإيمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته إياهم، فقال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٥٤].
﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ {٥٥﴾ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿٥٦﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿٥٧﴾ } [الحج: ٥٥-٥٧] ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحج: ٥٥] يعني المشركون، ﴿فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾ [الحج: ٥٥] في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: ما باله ذكرها بخبر ثم ارتد عنها.
﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ [الحج: ٥٥] يعني: ساعة موتهم، أي: حتى يموتوا أو يقتلوا، وهو قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ [الحج: ٥٥] يعني: يوم بدر في قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي.
وسمى الله ذلك اليوم عقيما لأنه لم تكن فيه للكفار بركة ولا خير، فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، قاله الضحاك، واختاره الزجاج.
قوله: الملك يومئذ يعني: يوم القيامة، لله من غير منازع ولا مدع، فلا مالك ولا ملك يؤمئذ إلا لله وحده، يحكم بينهم مما ذكر من قوله: فالذين آمنوا إلى قوله: عذاب مهين.
ثم ذكر فضل المهاجرين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {٥٨﴾ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿٥٩﴾ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿٦٠﴾ } [الحج: ٥٨-٦٠] {


الصفحة التالية
Icon