قال سليمان: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا﴾ [النمل: ٣٨] وإنما قال هذا سليمان بعد أن قربت منه، وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان، وأحب أن يأخذ عرشها قبل أن تسلم، فلا يحل له أخذ ما لها، وذلك قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣٨] منقادين طائعين.
﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [النمل: ٣٩] وهو المارد القوي الغليظ الشديد، ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: ٣٩] يعني: من مجلسك الذي تقضي فيه، وكان سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار، قال مقاتل: قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري، فليس شيء أسرع مني.
وإني عليه أي: على حمله، لقوي أمين على ما فيه من الذهب والجواهر.
فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [النمل: ٤٠] وهو آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وهذا قول أكثر المفسرين في الذي عنده علم من الكتاب، ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠] قال سعيد بن جبير: قال لسليمان انظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين يديه.
والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مدة إلى السماء، وقال مجاهد: معنى ارتداد الطرف إدامة النظر حتى يرتد إليه طرفه خاسئا، وعلى هذا معنى الآية أن سليمان يمد بصره إلى أقصاه، وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب إليه بصره حسيرا يكون قد أتي بالعرش.
قال محمد بن إسحاق: انخرق مكان العرش حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان.
ونحو هذا روى عكرمة، عن ابن عباس، قال: جرى تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان.
وقال الكلبي: خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان.
وقال أهل المعاني: لا ينكر من قدرة الله أن يعدمه من حيث كان، ثم يوجده حيث كان سليمان بلا فصل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب، ويكون كرامة للولي، ومعجزة للنبي.
واختلفوا في ذلك الذي دعا به آصف: فقال مقاتل، ومجاهد هذا: يا ذا الجلال والإكرام.
وقال الكلبي: يا حي يا قيوم.
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، نا ابن أبي الدنيا، أنا عبيد الله بن عمير الخيثمي، عن المنهال بن عيسى، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله، قال: قال سليمان بن داود لصاحب العرش: قد رأيتك تراجع شفتيك، فما قلت؟ قال: قلت: إلهي وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت، ائت به.
وقوله: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ [النمل: ٤٠] في الآية محذوف تقديره فدعا الله فأتى به، فلما رآه مستقرا عنده ثابتا بين يديه، ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ [النمل: ٤٠] أي: هذا التمكين من حصول المراد من فضل الله وعطائه، قال قتادة: والله ما جعله فخرا ولا بطرا، ولكنه جعله منة لله وفضلا منه.
ليبلوني ليختبرني، أأشكر الله فيما أعطاني من نعمة، ﴿أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ﴾ [النمل: ٤٠] ربه، ﴿فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [النمل: ٤٠] لأجل لنفسه، يفعل ذلك لأن ثواب شكره يعود إليه، ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ﴾ [النمل: ٤٠] عن شكره، كريم بالإفضال على من يكفر نعمه، قال المفسرون: خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس فتفشي إليه أسرار الجن، وذلك أن أمها كانت جنية، ولا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده لو تزوجها، فأساءوا الثناء عليها ليزهدوا فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا، وإن رجلها كحافر الحمار.
فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها.
فذلك قوله: {


الصفحة التالية
Icon