ظاهره أن الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها، وقوله: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ [سبأ: ١٨] جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم، قلنا لهم: سيروا فيها في تلك القرى، ليالي وأياما ليلا شئتم السير أم نهارا، آمنين من الجوع والعطش والسباع والتعب، ومن كل خوف.
ثم أنهم بطروا النعمة وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ [سبأ: ١٩] أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ليركب إليها الرواحل وتتزود الأزواد، وقرئ بَعِّد وهو بمعنى باعد، وهو مثل ضعف وضاعف، وقرب وقارب.
وظلموا أنفسهم بالكفر، فجعلناهم أحاديث لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم كيف فعلنا بهم، ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وذلك أن الله تعالى لما غرق مكانهم وأذهب جنتيهم تبددوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل بهم في الفرقة، فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ.
أخبرنا أبو حسان المزكي، أنا هارون بن محمد الإستراباذي، أنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أنا أبو الوليد الأزرقي، نا جدي، نا سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء، وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين، فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه إلى مكة، فأقاموا بمكة وما حولها، فأصابتهم الحمى، فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا.
قالوا: فماذا تأمرين؟ قال: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان، ثم قالت: من كان ذا جلد وصبر على أزمات الدهر فعليه بلأراك من بطن مر، وكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسبات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل، وكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، ولبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير، وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها، أي جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم يريد النبات الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة وآل محرق.
وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [سبأ: ١٩] يعني فيما فعل سبأ،